::
أرخى ماجد الستار الورقي الذي كان يخفي وجهه عني ويفصل زاويته على الكنبة التي تحملنا من زاويتي عليها بعدما أنتهيت من المكالمة الهاتفية التي تطفلت علينا خلال حواري معه.
كنا نتحدث معاً خلال جلسة قهوة دعوته إليها أمسية اليوم في بيتي عندما أتتني مكالمة هاتفية مطولة قطعت سياق الحديث الشيق بيننا وسببت ضيق لي وملل له حثه على رفع الصحيفة الملقاة أمامه على الطاولة لدفن وجهه فيها وقتل الوقت بمطالعتها حتى أنتهي من محادثتي.
أنزل ماجد الصحيفة عن وجهه بحركة ميكانيكية بطيئة كأنه يحاول فيها الإفاقة من نوبة الملل، وأعادها إلى نفس الزاوية التي كانت ملقاة عليها على الطاولة قبل إلتقاطه لها، ثم رفع ذراعيه في الهواء ليشبك يديه خلف رقبته رافعاً في نفس الوقت رأسه ليحدق في السقف وهو يتمتم ببعض الكلمات لم ألتقط منها سوى:
.... تلاتة وستين .... كم بائي لي؟
بائي لك أيه ياماجد؟
سألته مستفسراً.
سنة ... كم سنة بئيا لي يابصيص؟ كم سنة؟
لم أعرف كيف أرد عليه، فلم أفهم قصده. كنت أعرف أنه قد بلغ الثالثة والستون من عمره لأنه قد احتفل بعيد ميلاده قبل بضعة أسابيع فقط. أعرف ذلك لأني أرسلت له بطاقة معايدة بالبريد الألكتروني، ولكني لم أفهم مغزى عبارته، هل أصابه مرض أم ماذا؟
لم أرغب في سؤاله عن حالته الصحية بشكل مباشر فهذه معلومة قد تركتها لاختياره في كشفها أو إخفائها عني، ولكني أردت أن أفهم قصده، فمن الواضح أنه قد قرأ شيئاً في تلك الصحيفة أثار عنده هذا النمط الكئيب من التفكير.
مش كبير كتير ياماجد ... لسه في منتصف العمر ... ممكن تعيش لمية ... إيه المانع؟
رددت عليه بعبارات متقطعة حاولت في كل واحدة منها إخفاء كذبة ماقبلها لأفهم سبب حسرته.
البابا مات بالألب أبل سني وأمي ماتت بالسرطان أبلو ... تعتقد راح أطول كام؟
لم يشر رده على أنه مريض ولكنه أشار إلى أن مسحة من التشاؤم قد صبغت كلامه وأصمتتني لبرهة. وبمحاولة متلعثمة مني لتدارك الوضع الذي بدأ يتحول إلى حالة مرتبكة من الإحراج، تمتمت بدوري فيها ببعض الكلمات لم يتعدى هدفها سوى سد ثغرة الصمت، ولاأتذكر منها إلاّ:
تعيش ..... لمية ...... ماتدري.
وأخذ الحوار بعدها منعطف حاد إفترق عن لب الموضوع الأصلي ودخل في نقاش داكن عن الحياة والموت خيمت عبائته على أجواء فيما تبقى من الأمسية.
بالرغم من فارق السن بيني وبين ماجد، إلاّ أنني أستمتع كثيراً بصحبته، القصيرة والغير منتظمة في العادة بحكم إقامته البعيدة، إنما الثرية علمياً والمشبعة فكرياً حين يتواجد قربي لكونه محادث بارع وأكاديمي على منزلة رفيعة، وإنسان سار قبلي على نفس الطريق الذي سرت أنا عليه سنوات بعده خلال رحلة الإستكشاف التي يسلكها بعضنا بدافع شجون الحياة أو فضول الذهن لكشف أسرار الوجود ومعرفة موقعنا فيه.
فلابد أن مقال ما في الصحيفة عن الأوضاع المحتدمة في المنطقة والنتائج المميتة التي ترتبت عليها، قد أيقض في باطنه بعض الأفكار المرهقة التي تتسلل إلى ذهن الباحث وتقبع فيه، تخمد وتستيقظ بين تارة وأخرى، حين يعثر في نهاية رحلته الإستكشافية تلك على الحقيقة التي سلك لأجلها ذلك الدرب ليصل إليها.
فلابد أن مقال ما في الصحيفة عن الأوضاع المحتدمة في المنطقة والنتائج المميتة التي ترتبت عليها، قد أيقض في باطنه بعض الأفكار المرهقة التي تتسلل إلى ذهن الباحث وتقبع فيه، تخمد وتستيقظ بين تارة وأخرى، حين يعثر في نهاية رحلته الإستكشافية تلك على الحقيقة التي سلك لأجلها ذلك الدرب ليصل إليها.
تلك الأفكار المرهقة تتشكل تلقائياً كنتيجة حتمية لكشف حقيقة وجود الإنسان وهي أنه قد تطور. واستيعاب تلك المعلومة يضيف للحياة أهمية لايمكن تثمينها بأي معيار، ولكنه يشدد أيضاً على النفور من الموت بدرجة لايمكن تقديرها بأي ميزان، ويعري القناع عن مدى بشاعة وجه ثقافة الموت التي يتغنى بحسنها ويخطب بجمالها بتواصل لايكل ولايتعب أساتذة "الجهل المقدس".
فأنا وماجد ومثلنا الكثيرون ممن أدرك حقيقة أصولنا وعرف ماسوف يؤول إليه مصيرنا ربما نشعر بألم أشد نحو تبعات الأحداث الإصلاحية التي تجري في أوطاننا في الوقت الحاضر، والتي وقعت تكاليفها الباهضة على أكتاف شباب غض يانع لم يبلغ بعضهم نصف عمر ماجد، تقابله فرحة أبلغ لمنتوج هذه التضحيات من حرية وديموقراطية ورخاء وازدهار نأمل أن يأتي عاجلاً وليس آجلاً، ويكون على مستوى من الإصلاحات تبرر جزء، فلا يوجد مايبررها كلها، من تلك التكلفة البشرية المأساوية التي قدمت على حلبة صراع التحرير لكي يزدهر الباقي ويأمن من شر الطغاة.
وأنا وماجد ومثلنا الكثيرون ربما نشعر بغضب أشد نحو بشر إختارت الأقدار أن تسلطهم على رقاب الأبرياء وتستعبدهم، لالسبب أو مبرر سوى أن الأقدار شائت لهم ذلك وهيئت لهم السبل التي تمكنهم من إشباع رغباتهم في التسلط والطغيان، وأحبطت لعقود محاولات الأبرياء لتحرير أنفسهم من ذلك الظلم والقمع والهوان.
إنه شعور غريب يصعب وصفه ذلك الذي ينتابنا ونحن نجر أرجلنا نحو النهاية المحتومة، يزداد غرابة وصعوبة أينما كان هناك حدث يحتم الركض نحو تلك النهاية واحتضانها لكي يتحرر غيرنا وينعم في ماتبقى لهم على دربهم إليها.
* * * * * * * * * *