::
بينما تُقرع كؤوس الخمر الذهبية المرصعة بالجواهر والدرر، والمحمولة بالأصابع المختّمة بالزمرد والياقوت، والموصولة بأذرع الجموع المؤمنة الضاحكة المستبشرة، والمنتشرة على ضفاف أنهر النبيذ الفردوسي المُعتّق الذي يقطع جنان السماوات السبع، إحتفالاً بانتصار أقرانهم في انتخابات الرئاسة في مصر، تبكي هنا على الأرض أطياف الحرية، والتنوير والتحضر والمدنية، التي نُحرت رقابها يوم أمس على منصة إعلان فوز عبدة أصنام المفاهيم المتصخرة لقيادة أمة منكوبة من البشر.
ولكن في سياق الواقع، فإن حجم نجاح هذا الإنتصار السماوي بالنظر إلى "عظمة" و"جبروت" الآلهة التي ساهمت في تحقيقه، فهو فوز نسبي: ساحق على الصعيد الإقليمي الشرق أوسطي المتخلف، إنما متواضع للغاية على الصعيد الدولي المتقدم. ولكن السماء، بقيادتها وسكانها، لن تهتم بالنِسَب، فأي إنتصار لها في أي مكان على الأرض، مهما بلغ من تواضع وضئآلة، فهو إنتصار يستحق الإحتفال، لاسيما بعد التقهقر الحثيث الذي أصاب رسالاتها الثلاثة عبر القرون، ولايزال إلى اليوم يتصاعد عبر القارات السبع.
ولكن السماء، بعلمها اللامحدود، لاشك أنها تعي جيداً بأن أي انتصار لها على هذه الذرة الغبارية المسماة بالكرة الأرضية، وحتماً في أي مكان آخر في الكون، إن كانت قد نشرت نفس رسالاتها الثلاثة هناك، هو إنتصار مؤقت سينحسر مده ويضعف مفعوله مع الوقت. والوضع المتدهور اليوم لأديان السماء، ولايُستثنى الإسلام منها، على الصعيد الدولي يشهد على ذلك.
أوكي، يكفي هذا القدر من السخرية، فالنتناول بجدية خبر استلام قوى الإستبداد والقمع والرجعية والتخلف، المسماة بالتيارات الإسلاموية (ولايهم أي تيار منها: إخونجي، سلفي، وسطي، فطالما أنها تعتنق بصدق آيديولوجية دينية، فهي تقف بنظري على نفس المنبر) لزمام الحكم في مصر.
أستغرب في الحقيقة ممن يتمنى نجاح أي حزب ديني، لاسيما الإسلامي بالذات، في إدارة شؤون دول اليوم، في القرن الواحد والعشرين. فالتمني بنجاحه ليس بأمل، بل بوهم لايمكن تحقيقه، ومن لايدرك ذلك فهو برأيي قاصر، ليس في فهمه للواقع التاريخي والراهن فحسب، بل الأهم، في فهمه لكيفية تبلور الأفكار أساساً في عقل الإنسان.
فبجانب أن الأحزاب الدينية مؤدلجة بطبيعتها على مناهج ومفاهيم وأفكار مختلقة في الأصل لتتلائم مع العصر الرعوي/الزراعي الكنعاني السائد قبل 2500 سنة، وتحورت قليلاً فيما بعد بواسطة الرسالة الإسلامية لتساير الحياة المكية/التجارية في القرن السابع الميلادي، ثم ظلت في جمودها لاتبرح منذ ذلك الحين إلى اليوم بينما تطورت المجتمعات البشرية وتغيرت قيمها وأعرافها وأنظمتها ومناهجها عدة سنين ضوئية إلى الأمام، هناك أسباب أخرى جوهرية على المستوى الذهني الفردي تحيل مابين رغبة الإنسان المؤمن في إنجاز أي إزدهار أو إنتعاش أو تقدم ينشده لمجتمعه، ولاشك أنه يرغب في ذلك، وبين إمكانيته لتحقيق هذه الرغبة. وهي هذه:
أي منصب، سياسياً كان أو ضمن أي مجال آخر، يصل إلى مرتبة صنع القرار، يتطلب أفراد تتمتع برؤية واضحة ودقيقة وثاقبة وموزونة، وقدرة شاهقة على التقييم والتمييز المجرد الموضوعي الصحيح للأمور محل الدراسة، لاتخاذ بشأنها القرارات السليمة، سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو تربوياً أو ضمن أي حقل آخر. وهذه الخصائص الهامة المطلوبة في أي قيادة، لاتضمن تواجدها في الفرد أو الجماعة المؤهلات الثقافية أو درجة مستواها، إنما درجة الوعي والإدراك، وعمق النظرة الشمولية البعيدة، والقدرة على تقييم الأمور لوضعها في نصابها الصحيح.
ولذلك لايمكن أن يستلم المؤمن المسلم منصب قيادي حساس يحتاج إلى قدرة فائقة في تقييم الأمور، وإمكانية عالية للتنسيق في مابينه وبين المجتمعات الأخرى، والتكيّف والتناغم والتعايش السلمي المثمر معها، ويتوقع أن ينجح فيه. لأن غياب القدرة على التمييز والتقييم الصحيح هو عاهة ذهنية يعاني منها كل متدين يؤمن بخرافات العصور الغابرة ويعتبرها حقائق لاتحتمل النقاش أو التشكيك. فمن يؤمن بوجود كيان خارق العلم والقدرة، وفي نفس الوقت يؤمن بأن ذلك الكيان الخارق يملك عرش محمول، تحفه جنود مجنحة بريش، اليوم في عصر التقدم العلمي المعرفي الباهر والمطبّق، فإن ذلك الإنسان يعاني من ضبابية وغشاوة في التفكير، يخلط فيها مابين الواقع والخيال، ولايستطيع معها التمييز مابين الحقيقة والأسطورة.
هو إنسان موازينه العقلية مختلة، فكيف له أن يقود دولة ويتوقع أن ينجح في قيادتها؟
هو إنسان موازينه العقلية مختلة، فكيف له أن يقود دولة ويتوقع أن ينجح في قيادتها؟
هذا الإنسان لن يتمكن من الوصول إلى القرار السليم الذي يحتاج إلى رؤية موضوعية واضحة تعكس مايحدث على أرض الواقع، ولن يتمكن من التعامل السليم مع القيادات الأخرى التي ترى الأمور وتتعامل معها كما هي في عالم الواقع بخلاف عالم الغمّامّات الغيبي الذي يكتنف نظرته. وسوف يكون مصير هذه القيادة الإنعزال والإنغلاق والتقوقع المسنود والمبرر بعقدة المؤامرة الدولية ضد الإسلام والمسلمين ...
ولكم في إيران أسبقية في هذا المصير ياعديمي الألباب، فهذه دولة لم تتمكن من التعايش مع المجتمع الدولي منذ بداية ثورتها الدينية إلى اليوم. وكلما لزم المتشددون زمام أمورها كلما زاد إنغلاقها عن العالم حولها وتضخمت مشاكلها الداخلية.
أما عن مصر، فحين تنتهي حفلة العرس السماوي القائمة اليوم، وتصطدم قيادتها الإسلاموية الجديدة غداً بالواقع السياسي والإقتصادي الحقيقي، وتفيق هلعاً من سكرتها الدينية، فحتى لو ميّعت ثوابتها ومسلماتها التي لاتُمس، وتمسكت بأخشاب ماتبقى من حطام زورق العلمانية الذي غرق في معركة إنتخاباتها، لكي تنقذ نفسها من الغرق بدورها، فلن ينفعها أو ينفع الشعب المصري ذلك.
فطالما عملية صنع القرار لاتزال تجري في رؤوس المؤمنين بالنمل المتكلم والبغال الطائرة والحيتان الفندقية، ففصل الدين عن الدولة ستكون عملية فارغة وغير مجدية حتى لو تحققت بالكامل.
فطالما عملية صنع القرار لاتزال تجري في رؤوس المؤمنين بالنمل المتكلم والبغال الطائرة والحيتان الفندقية، ففصل الدين عن الدولة ستكون عملية فارغة وغير مجدية حتى لو تحققت بالكامل.
يقف الشعب المصري اليوم على عتبة أبواب حقبة مشؤومة، بدت ظواهر شؤمها تلوح في ساحة التحرير برفع المصاحف المصاحبة بهتافات: "ده دستورنا" المنطلق من أفواه التجمعات الملتحية ذووا العقول المغيبة.
* * * * * * * * * *
هناك 4 تعليقات:
مقالك جميل ومؤثر، ومع ذلك لننظر إليها بشكل إيجابي، فعلى صعيد النخب العلمانية الليبرالية العقلانية يعد أختيار مرسي نكسة وردة حضارية، ولكن على المدى البعيد سوف يكتشف الشعب العربي بعد التجربة على نفسه وعلى عمره القصير، أن إسلامه الذي يموت لأجله سوف يكون سببا في الموت والدماء والفوضى والفساد الأخلاقي وانتهاك الكرامة البشرية وعدم الشعور بالاستقرار وكره الذات والآخر، بل سوف تستفحل كافة الأمراض الفكرية والنفسية العربية.
مع انتشار العلم والتجربة بالصح والخطأ سوف يلقن الشعب العربي نفسه درسا لن ينساه، فقد اختار أعداء الديمقراطية للمرة الأولى بالديمقراطية الغربية الكافرة، من شدة حمقه وبلادته وسفاهته.
فحتى ألمانيا المتحضرة أختارت هتلر بالديمقراطية ومنذ ذلك الحين وهي لا تختار إلا الليبراليين.
وفي هذه المنطقة المنكوبة من العالم، لا بد للشعوب العربية الغائبة عن في ما وراء التاريخ، أن تمارس مرضها المازوشي بدرجة أبشع كي تلاحظ خيبتها لمرة واحدة، فمن هنا يبدأ العلاج.
السيد بصيص:
-يبدو أنك لا تعلم الكثير عن جماعة الاخوان المتأسلمين المشبوهة في مصر أو عن جماعة التلفيين المغيبة.
-هي جمعية ميكافيللية لا تمت الي الدين بصلة لخداع بسطاء العقول.
-الذي حدث في مصر باختصار شديد هو تغيير بعض خدم الامبراطورية الصهيوأمريكية الغربية بخدم جدد بنكهة دينية مع الابقاء علي بعض الخدم القدامي لاستكمال استنزاف دماء المطحونين في تلك البلاد حتي آخر قطرة.
-مرة أخري أتمني أن تنظر الي ما تحقق في ايران بنظرة محايدة، و تقارن بين ما وصلت اليه و ما وصلت اليه القبائل العربية المجاورة لها المستسلمة تماما منذ عقود للامبراطورية الصهيوأمريكية.
مسلم مصري
مقال رائع
هذه الغزوة المباركة بواسطة صناديق الإقتراع ،رمز الديموقراية الكافرة سيكون لها ما بعدها، جميع مشاكل مصر سيتم التغلب عليها بالدعاء للله سبحانه بكرة وأصيلا، مدعومة بتلاوة الطلاسيم والرقية الشرعية،ولن يبقى حينها للمصريين سوى التفرغ للصلوات الوسطى وصلاة الفجر.
لكي لا أكون متشائما كثيرا، فإني أتنبأ بمستقبل زاهر للشعب المصري تحت راية الإسلام الإخوانجي،وسيلتحق بركب التقدم على الطريقة الصومالية التي انبهر بها العالمين، والاص المستعان آمين.
......................
هذه رائعة جدا منك يا بصيص شكرا على المقال الجميل
«فطالما عملية صنع القرار لاتزال تجري في رؤوس المؤمنين بالنمل المتكلم والبغال الطائرة والحيتان الفندقية، ففصل الدين عن الدولة ستكون عملية فارغة وغير مجدية حتى لو تحققت بالكامل«
..................
عابر سبيل
اللي غير مفهوم هو ليه اتاخرت نتيجه الاعلان عن فوزه طبعا هناك مساومات تمت .وخطبته كانت قويه جدا وعاطفيه للغايه .انا شخصيا اتمنى لمصر الافضل واعتقد انه الكل يتمنالها الافضل .وهذه النيجه هي الافضل ماالفائده اذا كان الشعب منقسم وهذا فساد استمر 30 سنه وتخلف الخ .المهم انه نصف الشعب جاهل ويعتقد وبيحلم بالماضي واسترجاعه لاباس لازم هدول يتعلموه الدرس ويقولوه حقي برقبتي خليهم يعيشوه التجربه الاسلاميه وبعدها حتقوم الثورة الحقيقيه اللي حتكون بالغالبيه العظمى .انا شاهدت كثير من المصرين صار عندها هوس ديني .طبعا نحن مسلمون لكن الدين اعتقاد واؤمن بفصل الدين عن الدوله لانه الزمن مختلف تماما
إرسال تعليق