::
بعدما انتهيت من العمل يوم الجمعة الماضي، كنت أتطلع بشغف إلى يومين من عطلة الويك إند أقضيهما مابين الطهي والقراءة والإسترخاء وأنهيهما بأمسية موسيقية رومانسية سعيدة. ولكن الأقدار قررت أن تتلف المزاج وتعتم الأجواء بضباب الحزن والكآبة من اللحظات الأولى. فقد أتتني مكالمة هاتفية وأنا على وشك مغادرة المكتب لتخبرني بأن نهلة قد توفت صباح ذلك اليوم.
بعدما انتهيت من العمل يوم الجمعة الماضي، كنت أتطلع بشغف إلى يومين من عطلة الويك إند أقضيهما مابين الطهي والقراءة والإسترخاء وأنهيهما بأمسية موسيقية رومانسية سعيدة. ولكن الأقدار قررت أن تتلف المزاج وتعتم الأجواء بضباب الحزن والكآبة من اللحظات الأولى. فقد أتتني مكالمة هاتفية وأنا على وشك مغادرة المكتب لتخبرني بأن نهلة قد توفت صباح ذلك اليوم.
نهلة بنت أعرفها جيداً، لم تبلغ الرابعة عشر من عمرها حين أغمضت عيناها ذلك الصباح وزفرت آخر نفس لها. كانت قد عانت بلاء المرض منذ ولادتها، ولم يمر أسبوع واحد من حياتها القصيرة بدون آلام أو معانات بشكل أو بآخر. كانت صغيرة الحجم لعمرها بسبب مرضها، بشوشة الوجه باسمة الشفتين بريئة الملامح، ولكن تلك الإبتسامة المرسومة لم تستطع غمر أحزانها التي يفشيها إنسدال إجفانها وإنخفاض نظراتها وسرحانها المتكرر حين تخاطبها. لم أرها فرحة قط إلاّ خلال الأسابيع السابقة لوفاتها عندما كانت تتطلع بسعادة بالغة وأمل كبير إلى شفائها بعد إجراء سلسلة من العمليات الجراحية الرائدة خلال تلك الفترة. فما الذي حدث؟ كيف توفت فجأة؟
بعد سنوات طويلة من المعانات، لم يحتمل قلبها المنهك أعباء تلك السلسلة من العمليات الصعبة، فاستسلم وتوقف.
*****
جلست في سيارتي لأحتمي من برودة الجو ورذاذ المطر بعدما وصلت إلى المقبرة مبكراً وأوقفت السيارة في ساحتها الدائرية الصغيرة أنتظر قدوم الموكب الجنائزي. لم أرى سيارات أخرى في الموقف عند وصولي سوى واحدة أمامي قد خرج منها ركابها الثلاث ووقفوا في المطر بدون غطاء يتحدثون ويدخنون السجائر. فنظرت إلى الساعة التي أشارت إلى الرابعة والثلث مساءً، قبيل موعد الدفن بعشرة دقائق، وعدت بنظري إلى الشباب الثلاثة أراقبهم بلا اهتمام وأتفرس في ذات الوقت بدموع الغيوم الشاحبة وهي تهطل وتنسال على زجاج السيارة أمامي، وأستمع إلى أوتار المطر تعزف برتابة على السقف من فوقي لتخفف عني وطأة الصمت المطبق وتضيف ألحاناً حزينة إلى شعور الإنقباض والترقب.
وصل الموكب بعدها بقليل ودخل من البوابة تتقدمه عربة سوداء تحمل نهلة في تابوتها تتبعها سيارة أهلها وموكب سيارات المعزين من خلفها. وتوالت السيارات في الدخول وتدفقت إلى الساحة الصغيرة لتتزاحم على المواقف الخالية، بينما استمرت عربة التابوت وسيارة الأهل في سيرهما البطيئ تحت مظلة من أشجار البلوط التي تحف الطريق الضيق الطويل المؤدي إلى موقع القبر. فترجلت ومن معي من السيارة لنمشي مسرعين مع جموع المعزين تحت وطأ المطر لننظم إلى أهل نهلة في آخر وداع لها قبل أن توارى تحت التراب.
*****
وقفت عند القبر قريباً من حافته محاطاً بجموع المعزين أنظر إلى قعر الحفرة التي سوف تأوي مثلها كل واحد منا يوماً ما وأحاول تجميع شتات أفكاري التي تبعثرت مابين الإستماع إلى همهمة وترديد المعزين للآيات والأدعية، ومحاولة جمح نفوري من منظر الدفن القادم وتضايقي من قطرات المطر التي لاتكف عن لفج وجهي كلما رفعت رأسي لأشيح بنظري عن الحفرة. ولكن إهتمامي تركز فوراً على صلاح، والد نهلة، عندما لمحته واقفاً على رأس القبر يحدق فيه.
صلاح قد بلغ الستين من العمر وزوجته الخمسين، ونهلة هي الإبنة الوحيدة لهما، فماذا كان يدور بخاطر الأب وهو ينظر إلى المثوى الأخير لإبنته الصغيرة الوحيدة؟ وما سيكون شعورهما حين يتركا ابنتهما راقدة تحت التراب في تلك البقعة القفراء ويرجعا إلى بيت لايزال يمتلأ بآثارها ولكنه يخلو منها؟
شعرت في تلك اللحظة بإنقباض واكتآب شديد من تلك الخاطرة كدت أن أجهش معها بالبكاء، ولاأدري كيف ضبطت نفسي، فأشحت برأسي جانباً ومسحت عيناي التي أغرقتهما الدموع.
*****
أتت نهلة الصغيرة محمولة في تابوت خشبي أكبر بكثير من حجمها الطفولي. إذ يبدو أن الإستعجال في الدفن كما تجري العادة في العرف الإسلامي لم يسمح في العثور على الحجم المناسب في الوقت المناسب. ولكن ماأهمية حجم التابوت إذا كان مصيره كمصير قاطنته ... الدفن والنخر والتحلل؟
نظرت إلى صلاح مرة أخرى بعد هذه الخاطرة الشاردة لأراه لايزال مُسمّراً في مكانه يلتفت إلى نعش ابنته التي يحمله عدد من المعزين وهو يدنو من خلفه، ولم أرى على وجهه أي إنفعال أو تأثر، بل صمت ووجوم أشبه بالغيبوبة منه إلى اليقظة. فوصلت نهلة بتابوتها إلى قبرها وأبوها لايزال ثابتاً في مكانه. ظننت أنه سوف يشارك في إنزال ابنته إلى مثواها ولكن الأب بقى واقفاً بلا حراك ويداه في جيبيه يحدق في التابوت بوجه جامد بلا انفعال ملحوظ سوى ماتكشفه عيناه اللتان ترمشان بتسارع واضح بين حين وآخر وتفشيان زوابع العواطف والمشاعر التي لاشك أنها تعصف بكيانه من الداخل بينما ينظر إلى نعش ابنته في تلك اللحظات وهو ينزل إلى مقر إستقراره الأخير.
*****
إستقر النعش في قاع القبر وتطوع نخبة من الشباب الحاضرين ليهيلوا عليه التراب، وصلاح لايزال جامداً في مكانه على رأس القبر، لم ينطق بكلمة أو يرفع بصره عن نعش ابنته طوال تلك المدة وهو يختفي تدريجياً تحت كومات التراب.
وخلال تلك اللحظات العسيرة المؤثرة، يطلب أحد الحضور المسنين من أحد الشباب إعطائه المجرف (الشبل) ليشارك بدوره في عملية الردم. فيبدأ ذلك الشيخ الكبير في إهالة التراب، ويأخذه الحماس لسبب ما في الإسراع بالردم. ولكن المطر الذي لايزال يرش الأرض والواقفين عليها ولم يتوقف منذ وصولي، قد جعل التربة طينية زلقة يتوخى الحذر منها عند الإقتراب من حافة القبر. ولكن يبدو أن حماس ذلك الشيخ قد غيبه عن تلك الخطورة، فتنزلق رجله على الطين المائع ويسقط على الأرض ورجله الأخرى تتدلى في القبر، ويخلق الشيخ الوقور بهذه الزلقة منظر سيريالي مسرحي إمتزجت به التراجيديا مع الهزل، مثّل فيه بعدم حرصه المقولة الشعبية الشائعة: "شيخ كبير رجله مدندلة في القبر" وجعلني ومن فطن لمغزى هذا المنظر نفقد السيطرة على الضحك في تلك المناسبة الحزينة.
*****
عدت بعد الدفن إلى البيت، كان ذلك يوم الأحد الماضي، وكنت قد ألغيت طبعاً برنامج الطهي والموسيقى الذي كنت أنوي تطبيقه في ذلك الويك إند. فجلست أحاول الإسترخاء وتجميع الأفكار بعد أحداث تلك العصرية، ونظرت من خلال النافذة إلى السماء القاتمة التي لاتزال تكتنفها الغيوم السوداء وإلى قطرات المطر التي لاتزال تنهال على زجاج النافذة وإلى عتمة ذلك المساء البارد وخواطري تسرح إلى نهلة الصغيرة وهي ممدة في نعشها تحت التراب، وحيدة في تلك البقعة المقفرة، تكتنفها الظلمة والوحشة والبرودة، بعيدة عن دفئ بيتها وأحضان أمها وأبيها.
خاطرة ليتها لم تمر بذهني فقد أظافت إلى عتمة الليل كآبة ....
خاطرة ليتها لم تمر بذهني فقد أظافت إلى عتمة الليل كآبة ....
فنشر الحزن عبائته حولي * وأطياف الليل تحتها تنوح
قد أطفأ الموت نور شمسي * وبدت ظلمتي في الأفق تلوح
ليت نهلة تصحو من نومها * فتبهج القلب وتشفي الجروح
ليت نهلة تصحو من نومها * فتبهج القلب وتشفي الجروح
Or you can smile because she has lived
You can close your eyes and pray that she will come back
Or you can open your eyes and see all that she has left
Your heart can be empty because you can't see her
Or you can be full of the love that you shared
You can turn your back on tomorrow and live yesterday
Or you can be happy for tomorrow because of yesterday
You can remember her and only that she is gone
Or you can cherish her memory and let it live on
You can cry and close your mind, be empty and turn your back
Or you can do what she would want: smile, open your eyes, love and go on.
By David Harkins
لماذا يدفن الإنسان؟ لماذا يموت الإنسان؟ هل عوجد حياة بعد الموت؟ ماهي أدلة الحياة بعد الموت؟