::
أحد المفارقات الطريفة التي تعج بها الأدبيات الدينية حديث: اللهم إني أعوذ بك من علم لاينفع، وأحد أنماط العلوم التي لاتنفع هي العلوم الجامدة التي لاتقبل التنقيح أو التطوير. ولكن هذا بالضبط هو النمط الذي تتميز بها العلوم الدينية ذاتها، بمسلماتها وثوابتها. فالعلوم الدينية إذاً هي التي يجب على الإنسان التعوذ منها وتفاديها.
أتاني تعليق على هذا البوست السابق من زائر إسمه حسن صالح، شعرت بعد قرائته برغبة في طرح بوست كامل للرد عليه بدلاً من دفنه في غياهب المدونة، لاحتوائه على محورين يمثلان قاعدتان أساسيتان هامتان يستند عليهما ويقدمهما في الحوارات الكثير من المتدينين كسبب قاهر لهم وللناس بشكل عام للتشبث بالدين.
وهذا هو التعليق الكامل للسيد حسن صالح، أفصله إلى جزئين لهدف التوضيح:
[الجزء الأول] اذا كنت تقول انه لا يوجد اله واتيت بكل الادلة العلمية (مع العلم ان الادلة العلمية ليست ثابتة ففي الاول ظن العلماء ان الشمس تدور حول الارض وبعد ذلك ظنوا غير شي ولا نعلم ماذا سوف يظنوا في المستقبل)
[الجزء الثاني] لكن فكرة انه يوجد شي هو اعظم مني وقادر على كل شي ...لذلك سوف اكون مرتاح البال فلا افكر بما سوف اجنيه غدا لانني اعلم بان رزقي موجود ولا افكر بما سوف يواجهني في المستقبل ...والاهم من ذلك انه عندما اشعر بالياس وفقدان الامل سوف اتذكر انه يوجد اله ينضر الي ويرعاني واستطيع ان اتوكل عليه في كل اموري ....فالايمان هو شعور لا قانون او معادلة رياضية كما هو الحب ولو نفيت الاه كان يجب ان تنفي ايضا(حبك لوالديك وحبهم لك وباقي المشاعر التي تشعر بها لانها ولحد الان لايوجد دليل علمي على وجودها غير اراء مبعثرة هنا وهناك.....واسالك سؤال واحب ان تجيب عليه بصراحة؟؟؟اذا ضاقت بك الدنيا وفقدت الامل وتجمعت عليك المصائب واصبحت غير قادر على التفكير(العلمي!!!!!!)فأين سوف تتجه والى ماذا سوف يقودك قلبك(طبعا ليس قلبك المفسر علميا!!!)؟؟؟
الحجة التي يذكرها الأخ حسن في الجزء الأول من تعليقه والتي أسمعها كثيراً من المتدينين، هي أن الأدلة العلمية معرضة للتغيير وليست ثابتة. ومضمون هذا النقد هو أن الأدلة المتغيرة لايمكن الإعتماد عليها في تفنيد ثوابت ومسلمات السماء إذا تعارضت معها.
ولكن مالايدركه أو يتجاهله الأخ حسن وغيره الكثير من المؤمنين، أن ثوابت ومسلمات السماء هي في الحقيقة حجة ضد السماء وليس لها، وقابلية المعلومات العلمية وأدلتها على التغيير هي خاصية تحسب للعلم وليس عليه. لأن المعلومات الثابتة هي معلومات متحجرة يابسة لاتتكيف مع المعطيات والمستجدات ولاتخضع للتحديث، فإن كانت قد أشبعت فضول الإنسان في عصرها، فهي اليوم علوم مرفوضة وملغية لاتنفعنا بشيئ.
فعندما يذكر القرآن أن الشمس تغطس في بركة من الطين الحامي عند الغروب، وأن الكون قد خلق في سبعة أيام، وأن مركز تفكير الإنسان في قلبه لافي مخه، وأن نجوم الليل هي مجرد مصابيح معلقة لتزين السماء، فهو يعكس ثقافة زمانه. وعندما نكتشف لاحقاً أن جميع هذه المعتقدات خاطئة وتحتاج إلى مسح بالأستيكا لتحديث نصوصها، ثم نجد أن هذا الفعل الصائب يجلب الموت لمقترفه، تظل هذه المعلومات كما هي، جامدة وحبيسة زمنها في وقت تدوينها، غير قابلة لأي تعديل أو تنقيح، ويجد المؤمن نفسه في حيص بيص يتخبط فيه من حجة واهية إلى حجة أوهن في محاولات بهلوانية يائسة ومضحكة لتبريرها.
قارنوا هذا التحجر في النص وجمود معلوماته بمرونة وليونة العلم التجريبي وقابليته للتكيّف والتنقيح حسب ماتقتضيه المعطيات والمستجدات، وقتما ظهرت. فللآف السنين، كانت الناس تظن أن الأرض مسطحة وهي مركز الكون، ثم أتي نيكولاس كوبيرنكس وفيرديناند ماجيلان ليغيروا هذه النظرة ويخبرونا بأن الأرض كروية وأن الشمس هي المركز. وقبل مئة سنة فقط كانت المعلومات العلمية المتوفرة لدينا إلى ذلك الوقت تشير إلى أن الكون بأكمله ينحصر في مجرتنا فقط، ثم تغيرت هذه الفكرة مع التقدم التكنلوجي لتفيدنا بأن الكون في الواقع يمتد خارج المجرة في جميع الإتجاهات لمليارات السنين الضوئية. وفي العقود الأخيرة، ظهرت مؤشرات جديدة أخرى تشير إلى أن حتى كوننا هذا ربما ماهو إلاّ كون واحد من عدد لايحصى من الأكوان المتوازية، تظهر وتزول في عملية ديناميكية من المحتمل أنها تمتد من أزل الماضي إلى أزل المستقبل.
فقابلية العلم التجريبي إذاً للتغيير هي ليست عيب فيه يُنتقد عليه، بل هي خاصية هامة وضرورية تسمح بتنقيح المعلومات وشحذها وغربلتها لتقربنا تدريجياً من الحقيقة، ونحن اليوم بفضلها أقرب بكثير إلى حقيقة الوجود مما كنا نعرفه في زمن ظهور القرآن.
أما عن الجزء الثاني من التعليق، فقد تطرقت إليه في بوست سابق تجدونه هـنـا، ولامانع من المرور عليه مرة أخرى باختصار لهدف التركيز.
أرى شخصياً أن هذا موضوع جدلي له محاسنه ومساوئه. فلاشك أن الشعور بوجود قوة خارقة ترعى وتحفظ وتشفي وترزق وتأخذ بيد الضعيف إذا سقط، هو شعور مريح للبال يبعث على الدفئ والأمل والإطمئنان. ولاأختلف بأن بعض الناس، وهذا من تجربتي الشخصية، ربما بحاجة إلى هذه القناعة المطمئنة المريحة، وإن كانت قناعة زائفة، أكثر مما هم بحاجة أو استطاعة لمعرفة الحقيقة ومواجهتها.
ولكن يظل هذا الإطمئنان قائم على قاعدة زائفة، زائفة، زائفة. ربما يوجد له مبرر عند البعض لأسباب مرضية أو نفسية قاهرة، إنما كونه مبني على كذبة، فلايجب أن يُقدم كهدف سامي أوفكرة ضرورية تستوجب نشرها بين البشر ليبنوا عليها حياتهم ويهدروا عليها الوقت والمال والأنفس، ويضيعوا بسببها أعمارهم وأعمار غيرهم في خلافات وعداوات وحروب مستمرة لاتتوقف.
وأخيراً كرد على سؤاله لي في نهاية تعليقه، أقول له: إذا ضاقت بي الدنيا وفقدت الأمل وتجمعت علي المصائب، أعترف وأقول لنفسي يابصيص هاردلك hardluck، الدنيا ليست مفصلة على مقاس حضرتك حتى تتكيف هي حسب حاجاتك أنت، إنما المسؤولية عليك أن تتكيف معها هي ومع تغيراتها. فإن لم تنجح في ذلك فمصيرك الإندثار. ورغم أن حالتك أفضل من حالة الطير على الشجر وحيوان البر وسمكة البحر، إلاّ أنها لاتختلف كثيراً عن هذه الكائنات في تعرضها للمصائب من أمراض وأزمات وحوادث . وعليك أن تدرك هذه الحقيقة وتتكيف معها.
ومالا أقبله ولا أفعله، هو أن أخدع نفسي وأسمح لها بالغرق في وهم يخلق لي أمل زائف يضيع حياتي الوحيدة والقصيرة في الإستجداء إلى ربي لينقذني من سوء حظي، هذا السوبركيان الذي لايتواجد إلاّ في خيال البشر. فقد تخفف هذه الخدعة من همّي وتبدد غمي، ولكنها لن تحل مشكلتي، فهذه تتطلب مواجهة الواقع والتعامل معه قدر استطاعتي.
* * * * * * * * * *