::
إيبن اليكساندر جراح أعصاب أمريكي قدير، شغل عدة مناصب أكاديمية طبية مرموقة ودرّس في بعض أشهر المستشفيات الجامعية وأرفعها مرتبة في علوم الطب، من بينها جامعة هارفرد.
أصابه في عام 2008 التهاب خطر في الدماغ أوقعه في غيبوبة دامت أسبوع. يقول في مقالة طويلة نشرتها له مجلة نيوزويك الشهيرة تحت عنوان، برهان على الجنة: رحلة جراح أعصاب إلى ما بعد الحياة، وغطت بها غلاف العدد الجاري، بأنه قد انتقل خلالها إلى العالم الغيبي ورجع منه. وهذه مقتطفات من وصفه لتلك التجربة (مع بعض التصرف في الترجمة). يقول اليكساندر:
"في بداية تجربتي، كنت بين الغيوم، الوردية/البيضاء المنتفخة الكبيرة، التي ظهرت بوضوح في زرقة السماء العميقة. وفوقها، في ارتفاعات شاهقة لاتقاس، كانت تعبر السماء أسراب من الكائنات المتلألأة الشفافة، وتترك خطوط إنسيابية خلفها.
طيور؟ ملائكة؟ هذه الكلمات خطرت لي لاحقاً عندما كنت أدون ذكرياتي، ولكن كلا هاتين الكلمتين لاتعطي هذه الكائنات حقها في الوصف، لأنها ببساطة كانت تختلف عن أي شيئ آخر عرفته على هذا الكوكب. فقد كانت على هيئة متقدمة وسامية ...
انبثق صوت ترانيم رائعة ومدوية من فوق، وقد تسائلت فيما إذا كانت صادرة من هذه الكائنات المجنحة ... كان الصوت ملموس كأنه مجسد، يشبه المطر إذا لامس الجلد بدون أن يرطبه.
وجدت نفسي كالنقطة على جناح الفراشة الجميل، تحيط بنا ملايين الفراشات الأخرى. كنا نطير فوق الزهور المتفتحة والأشجار المزدهرة، وكانت كلها تتفتح بينما نحلق فوقها ...
كانت هناك مياه جارية، وبركات من الماء، وألوان لاتوصف. ومن فوقنا، كانت هناك أقواس بألوان مذهبة وفضية، وترانيم رائعة تنبثق منها. وقد وصفت تلك الأقوس فيما بعد بأنها ملائكة، وأعتقد أن هذا الوصف دقيق.
ثم خرجنا من هذا الكون. أتذكر أنني رأيت كل شيئ يتراجع، وقد شعرت في بادئ الأمر بأن وعيي قد دخل في فراغ أسود لامتناهي. كان ذلك شعور مريح للغاية، وكنت أدرك حدود تلك اللانهاية، إنما من الإستحالة وصفها بالكلمات.
كنت هناك مع الوجود الرباني الذي لم أستطع أن أراه عينياً أو أن أصفه، فقد كان هالة من النور المبهر". (إنتهى، والمقالة الكاملة في الرابط أعلاه)
وهذه مجرد مقتطفات قصيرة من وصف طويل لما رآه اليكساندر في غيبوبته التي أصدر فيها الآن كتاب على وشك النشر. فماذا نستطيع أن نقول حيال هذه التجربة الغريبة؟
ربما أول خاطرة تمر في ذهن القاريئ المشكك، أن هذه الرؤية لاتغدو عن كونها مجرد حلم أو هلوسة انتابت اليكساندر في غيبوبته. ولكن حسب رأيه الذي يسنده بنتائج الأشعة المقطعية CTScan وفحوصات عصبية أجريت عليه، ولاننسى أيضاً بأنه دكتور متخصص في جراحة المخ، أن غيبوبته قد تسببت عن التوقف الكلي للعمليات الدماغية الصادرة من القشرة اللحائية الكورتية Cortex في المخ بسبب إلتهابها، وبتوقف ذلك الجزء من الدماغ، يتوقف الوعي والتفكير والإدراك، ومعه أي تخيلات أو هلاوس أو أحلام. ولهذا السبب فإن التفسير الوحيد لتلك الرؤية الواضحة التي ظهرت لإليكساندر، حسب رأيه، هو نوع من الإنفصال الروحي عن الجسد، انتقل فيه إلى عالم آخر خلال فترة فقده الشامل للعمليات الدماغية العليا في المخ.
فهل نقبل أخيراً، بأن هناك إنسان على قدر مرتفع من الثقافة والذكاء، وبسند من الفحوصات الطبية، قد خرج من هذه الدنيا لفترة إلى عالم آخر ماورائي، ثم رجع منه ليخبرنا بما رأى فيه؟ وأن وجود عالم الغيبيات، الذي لطالما ذكرته وأصرت على حقيقته أغلب أديان البشر على مر عصورها، هو حق وواقع يجب علينا أن نؤمن به ونستعد له؟
الإجابة باختصار: لأ، لأن تجربة الدكتور المرموق، تبينت بعد المعاينة أنها غير مرموقة وممتلأة بالثقوب. وتهاريف الأديان بالعوالم الماورائية لاتزال تقبع تحت تصنيف التهاريف والتخاريف، لم تتزحزح عنها خطوة نملة.
أول ملاحظة مرت بذهني في بداية قرائتي للقصة، وقبل الإستناد إلى أي من الإنتقادات العديدة التي إنكبت عليها من عدة مصادر علمية بعد نشرها، هو مكونات الصورة التي تجلت للدكتور في بداية "دخوله" في هذا العالم الغيبي، والتي تمثلت برؤيته للغيوم والكائنات المجنحة الطائرة، وسماعه للترانيم. فهذه كلها صور كليشيهية كاريكاتورية تجسد العالم الألوهي التقليدي الموصوف في الكتب التوحيدية، والمسيحية بالخصوص. وهي صورة يُنظر إليها في الدوائر المثقفة اليوم بأنها صورة بدائية عوامية ساذجة، تعكس جهل الناس ذاك الوقت بحقيقة الكون، تمخضت قبل آلاف السنين من عقول أقوام انحصرت تخيلاتهم في إطار ثقافة عصرهم. فالسماء كانت في نظرهم قبة تعيش فوقها الآلهة مع ملائكتها، والأسلوب الوحيد للوصول إليها هو بالطيران المجنح، مروراً بالغيوم طبعاً.
وهذا بالضبط ما ترآئى لدكتورنا المتألق في غيبوبته، فتجربته تعكس ثقافة محيطه المسيحي الذي نشأ فيه وانطبعت أيقوناته في فكره. ومما يدعم ذلك إعترافه في بداية المقالة بانه مسيحي مؤمن، رغم زعمه بأنه غير ملتزم.
أما إصراره، المدعم بمؤهلاته الطبية ومنصبه العلمي المتألق ونتائج فحوصاته، على أن تجربته هذه لم تكن من وحي أحلامه أو هلاوسه خلال غيبوبته، فقد دمره سام هاريس في هذه المقالة التي خصص لها نصف يوم من عمله لكي يرد من منطلق علمي عليه. ومقالة سام هاريس طويلة نوعاً ما ولا أريد أن أطيل هذا البوست، ولكني سوف أقتبس جزء من منها حول تفنيده لنتائج الأشعة المقطعية والفحوصات العصبية التي يستند إليها أليكساندر في تأكيده، والذي يبدو لأي شخص غير متخصص بأنه علمي صلب (والفقرة التالية هي إعادة صياغ لجزء من المقالة):
يقول هاريس - والذي يحمل بالمناسبة شهادة دكتوراه في علم الأعصاب أيضاً - أن الأشعة المقطعية التي يستند عليها أليكساندر لاتستطيع أن تبت فيما إذا كانت نشاط العمليات الدماغية جاري أو متوقف في المخ، فهذا يحتاج لتحديدها إلى آلات متخصصة أخرى كـ التصوير بالرنين المغناطيسي fMRI والـ تخطيط الموجات الدماغية EEG وغيرها، والتي لم يذكر الدكتور بأنها قد استخدمت. ويضيف، أنه حتى لو لم يكن هناك نشاط ظاهر في عمليات الجزء الملتهب من دماغ الدكتور، فلا يعني هذا بالضرورة أن العمليات الدماغية قد توقفت تماماً كما يظن أليكساندر، لأن من المحتمل أن تكون جارية ولكن بدون أن تلتقطها الأجهزة. ويقول أيضاً، لو كانت قد توقفت تلك العمليات الدماغية تماماً كما يزعم اليكساندر، فهذا يعني موت ذلك الجزء من مخه، وهذه حالة لايمكن الإفاقة منها، وتعني موت وعي الإنسان حتى لو كان جسده حي.
هذا يدحض تماماً مزاعم إنتقال إنسان إلى عالم ماورائي، وتظل الفكرة مدفونة بين صفحات الكتب البدائية وفي طيات أدمغة المخدوعين بها، لم يأت أحد منهم بأي دليل على صحتها رغم منحهم فترة طالت أكثر من ألفين سنة لإثباتها وإجراء عشرات الآلاف، بل ربما ملايين التجارب عليها. فهذه فكرة قد آل مصيرها لنفس مصير محاولة إثبات وجود فيل غير مرأي أخضر بثلاثة خراطيم جالس فوق الشجرة ياكل موز، فنتائج هذه المحاولات العقيمة كلها واحدة، وهي بالضبط:
صفر.
وليس من المستغرب بعد المعاينة والتمحيص الموضوعي أن تتهاوى مصداقية هذه القصة التي بدت في ظاهرها وكأنها قائمة على قواعد علمية صلبة، فجميع القصص والأحداث التي يمر بها البشر والتي تشير بنظرهم إلى وجود عوالم غيبية تتبوء نفس المصير، وليس من المستغرب أيضاً، رغم الغياب التام للدلائل وانكشاف الكذب والتزوير، أن الناس لاتزال تتشبث بوهم وجود حياة ما بعد الموت ...
لأن الوهم يزرع الأمل، والأمل يُخدّر آلام مواجهة حقيقة أن الحياة مصيرها الفناء.
* * * * * * * * * *