::
روى لي صديق ملاحظة طريفة/محزنة وقعت يوم أمس من جملة أحداث العمل لديهم في المكتب، أنقلها لكم هنا لأبني عليها خواطر هذا البوست.
يقول صديقي:
"دخل أبوحامد (أحد الموظفين) علينا في المكتب متأخراً صباح أمس وصفق خلفه الباب بغضب، ثم زفر بعبارة مبهمة تشبه الأنين أظنها كانت تحية "السلام عليكم" وتوجه وهو يعرج ليجلس بعدها خلف مكتبه ويحدق في أوراقه. فتوقفت عن العمل لبرهة أراقبه وهو يرفع نظارته عين عينيه ويحاول تثبيتها على طرف رأسه فتنزلق على عرق جبهته وتسقط على أنفه، ثم يرفعها مرة أخرى فتنزلق ثانية وتسقط على أنفه، ثم يرفعها وتسقط هكذا عدة مرات حتى خلعها بالأخير بنرفزة شديدة ورماها على الأرض.
من الواضح أنه كان يعاني من مشكلة ما ذاك الصباح، فقمت لأسأله عن أسباب إنزعاجه.
إتضح أن سبب غيضه ذاك الصباح هو سيارته، فقد تعطلت عليه في ثلثي طريقه إلى العمل مما أضطره إلى تركها وتكملة رحلته مشياً لثلاث أو أربع كيلومترات فيما تبقى من مسافة بالرغم من أنه يعاني من روماتزم مؤلم في ركبته. ومما زاد غيظه أيضاً أنه قد أخرج سيارته من ورشة التصليح لعطل آخر قبلها بأسبوع فقط، وهاهي اليوم تتعطل عليه لتشقيه مرة أخرى".
يكمل صديقي سرد الحدث بهذا التساؤل:
"سيارة أبوحامد جديدة نسبياً لم يتعدى إستعماله لها السنتان. كما أنها ألمانية الصنع يفترض بها الجودة والمتانة، ولكنها تعطلت عليه خلال تلك السنتان أربع مرات، دخلت في كل مرة فيها ورشة التصليح". ويتسائل صديقي بقوله: "لماذا لاتستطيع المصانع إتقان حرفتها وتحرص على ضبط منتجاتها مثل السيارات بحيث لاتتعرض للعطل إلاّ ماندر، ربما مرة أو مرتين خلال كل عشرة سنوات مثلاً؟"
هذا تساؤل عتابي ربما لاينصف المُنتج الذي يخضع لتأثير عوامل تجارية كثيرة تفرضها الأسواق الحرة عليه، كالموازنة في تحقيق الجودة والمتانة ومواكبة التقدم التكنوليجي للسلعة من طرف، ومن طرف آخر تحقيق إيرادات كافية لتغطية تكاليف إنتاج تلك السلعة وتوزيع قسم منها كأرباح للمساهمين والتوسع في نفس الوقت. فالمعادلات الإقتصادية التي يفرضها السوق على الإنتاج هي التي تتحكم في المسيرة التكنلوجية للوصول إلى مستوى من الجودة يمكن معها إستمرار أداء الآلات مع ندرة العطل طوال العمر المخصص لها. ومما لاشك فيه أن المنتوجات التقنية اليوم هي أكثر جودة ومتانة من منتوجات قبل خمسين سنة، ونسبة عطل السيارات الحديثة اليوم هو أقل بكثير من نسبة عطلها في الماضي. فالجودة والمتانة إذاً تتقدم مع مرور الوقت بالرغم من تأثير العوامل السلبية عليها.
هذا بخصوص مشاكل عطل سيارة أبوحامد، ولكن ماذا عن مشاكل عطل صاحب السيارة نفسه ... السيد أبوحامد؟
أليس هو بجسده آلة مصنعة أيضاً تتتعطل وتتلف وتهترئ تماماً كما تتعطل وتتلف وتهتريئ سيارته؟
كم مرة تعطل أبوحامد لدرجة تقتضي تصليحه خلال نفس فترة السنتان منذ أن أشترى سيارته؟
لنجري مقارنة لجودة صناعة الإثنان:
خلال السنتين الماضيتين، أصيب أبوحامد، وهو لايزال في الخمسينات من عمره، بهذه الأنواع من العطل، هذا بالإضافة إلى مايعانيه من أمراض مزمنة كالسكر وإرتفاع ضغط الدم وروماتزم وحساسية موسمية والتي لن أدرجها في اللائحة بسبب وقوعها قبل مدتنا المعنية:
* فتق في بطنه إقتضى عملية جراحية لترميمه.
* إلتهاب في لثته.
* إلتهاب في عينه.
* أورام في ركبته.
* رشح شديد، مرتين.
* صداع نصفي، عدة مرات.
هذا مايتذكره صديقي من خلال ملاحظاته الشخصية لأبوحامد، ولاتشمل هذه اللائحة المشاكل الصحية التي لم تبدوا عليه ولم يذكرها لأحد. فأبوحامد إذاً تعطل ميكانيكياً وأخفق في أداء وظيفته أكثر من إخفاق أداء سيارته بمرتين على الأقل خلال نفس الفترة.
في الواقع أن الإنسان لم يتقدم في مقاومته الجسدية لمشاكله الصحية والمرضية خلال نفس الفترة كما تقدمت مقاومة المصنوعات البشرية ضد العطل. والإنخفاض في مستوى الأوبئة وإرتفاع معدل الأعمار تحقق كنتيجة مباشرة للتقدم العلمي الخارجي الذي حققه الإنسان نفسه بنفسه، وليس تحسن جسدي داخلي إكتسبه آلياً.
ولكن مهلاً ... إذا كانت السيارة مصنوعة من قبل بشر غير معصومين، يصيبون ويخطئون، تحد من تفكيرهم سعة عقولهم، وتلزمهم قوانين طبيعية وتفرض على أدائهم عوامل إقتصادية ومعادلات تسويقية، وتكبل آدائهم الكثير من القيود والموانع، فما حجة الخالق ذو القدرة المطلقة والعلم الكامل الذي لايخضعه شيئ أو يكبله شيئ أو يلزمه شيئ في تصنيع آلات تتعطل أكثر مما تتعطل آلات البشر؟
هذا باستثناء أيضاً الحوادث التي يتعرض لها الناس، والتي تحد من أدائهم أو حتى تنهي حياتهم بكل سرعة وسهولة، كارتطام رأس أحد بالأرض حين ينزلق مثلاً، فمن المحتمل جداً أن تسبب وقعة بسيطة مثل هذه قتل الإنسان، إنما كان التركيز على المشاكل التي يصعب أو يستحيل على البشر تفاديها كالأمراض.
لاشك بأن الإنسان كمُنتَج صادر من مصانع السماء هو أقل جودة ومتانة وأكثر عرضة للخراب وتكلفة للتصليح من آلاته هو الصادرة من مصانعه على الأرض. وهذه حقيقة تتعارض مع قدرة السماء وسعة علمها بالنظر إلى جودة ومتانة ودقة منتجاتها ....
إلاّ إذا لم تكن للسماء المطلقة العلم والقدرة يد في تصنيعه، بل تطور؟
وهذه هي الحقيقة، بدون مساهمة من السماء، لأن لو كانت للسماء يد في بنائه لكان أبوحامد أقل عرضة للعطل من سيارته.
* * * * * * * * * *