::
لم نكد نجلس حول الطاولة في مطعم "فاروق" اللبناني تلك الظهرية حتى أتانا الجرسون مسرعاً تسبقه يده بقوائم الطعام التي قذفها علينا ووقف بعد ذلك على رؤوسنا بصبر معدوم ينتظر الطلبات! أحد أسوء التصرفات لجرسونات بعض المطاعم، والتي تسبب في الغالب إحراج للزبائن وإمتعاض منهم يؤدي، كما حصل منّا في تلك الحالة، إلى توبيخ علني للجرسون على تصرفه المغضب إستلم من خلاله بأحقية عادلة السهم الأكبر من الإحراج الذي سببه في تعجيله لنا.
ولكن ذلك الحدث الطفيف لم يكن الوحيد الذي وقع في المطعم في تلك الظهرية، إنما أعقبه بدقائق قليلة حدث آخر أشد وقعاً على النفس، لازمني شبحه لعدة سنوات وغيّر أسلوبي في الأكل لباقي حياتي. وهذا ماحدث:
لم أنتبه للعائلة الصغيرة الشابة الجالسة حول الطاولة المقاربة إلاّ بعدما دوت صرخة من الزوجة أعقبها صوت سقوط كرسي على الأرض. وعندما ألتفت تجاه المصدر، رأيت الأب منحنياً يضرب إبنته الصغيرة، التي لاأظن أنها قد تجاوزت الثلاث سنوات، على ظهرها بشكل متتالي وعلامات الهلع تملأ وجهه. لم يدرك أياً منا خلال تلك الوهلات الأولى مالذي كان يحدث، ولكني أدركت السبب فوراً حالما لمحت وجه الطفلة، الذي قد تحول لونه إلى الأزرق، بأنها كانت تغص بطعامها. توالت ضربات الأب على ظهر ابنته وفمها المفتوح يحاول بيأس أن يشهق ويداها تمسك بعنقها وكأنما تستجدي الأكل بأن يخرج من قصبتها. لم تنجح محاولات الضرب، فلف الأب ذراعيه حول إبنته يحتضنها وصراخ الأم يتعالى في المطعم، وأخذ يضغط على صدرها في محاولة يائسة أخرى لإخراج الطعام من قصبتها.
تتابعت الأحداث بسرعة لم تمكن أحد من التفكير أو مد يد العون لإنقاذ الطفلة المختنقة، ولم يكن هناك أسلوب آخر يمكن تطبيقه غير ما كان الأب يفعله، فوقف الجميع على أرجلهم يراقبون الأحداث بهلع وهي تنطوي أمامهم وحياة البنت الصغيرة تنحسر منها. وبينما الكل يحاول الإفاقة من روع المنظر، أتت إمرأة تهرع واختطفت الطفلة من ذراعي أبيها وقلبتها برفعها في الهواء من رجليها وصرخت على الأب أن يضربها بقوة على ظهرها، فلم يتردد الأب وأخذ يضرب إبنته بقوة مرات متتالية حتى سعلت ولفظت الأكل الذي كان عالقاً في قصبتها ثم أجهشت بعده بالبكاء. وذلك البكاء، الذي يكون مزعجاً على السامعين في العادة، كان أعذب صوت وقع على مسامع الحاضرين بعد تلك اللحظات المهولة، لاسيما أمها وأبوها.
لم يظل الأبوان طويلاً في المطعم بعد تلك الصدمة، فنهضا والأم تحتضن إبنتها وخرجا وأطباق الأكل لاتزال على طاولتهم تكاد لم تلمس. والحقيقة أنا ومن كان معي شعرنا أيضاً بفقدان الشهية، فاقتصرت وجبتنا تلك الظهرية على القهوة وبعض المشروبات الباردة فقط.
تلك الحادثة نبهتني، بل هزتني في الحقيقة، وهكذا فعلت لاشك مع باقي الحضور، وحذرتنا كلنا من خطورة الغص في الطعام. غيّرت بعدها أسلوب أكلي، فصغّرت حجم لقمتي وطولت في مضغها وامتنعت عن الكلام خلال الطعام إذا سمح لي الوضع بذلك. ولكن تلك الحادثة لم تنتهي هناك، بل تزامنت مع خبر صادف أن قرأته في أحد الصحف بعدها ببضعة أيام يصف حادثة أخرى وجدت فيها الشرطة جثة رجل في سيارته، إتضح بعد تشريحه أنه قد مات مختنقاً بعلكة، تصوروا بعلكة! قد دخلت في قصبته وعلقت فيها، وحيث أن الإغماء من الممكن أن يحدث بعد دقيقتين من إمتناع الأوكسجين عن المخ والموت بعد حوالي ثلاث دقائق، فلا عجب أن ذلك الرجل قد مات مختنقاً بعلكة وهو في سيارته.
هذه الأحداث تحث على طرح ملاحظة وتساؤل:
لابد أن كل إنسان قد غص عدة مرات في حياته، إما بجرعة ماء أو، والأخطر، بالأكل، فلماذا يغص الإنسان بهذا التكرار وهذه السهولة؟
اللوم يقع على موضع المريئ من القصبة الهوائية، في الإنسان بالذات مقارنة مع باقي الحيوانات، إذ أنه عيب خلقي يعاني منه جميع البشر، وأصابع الإتهام في هذا العيب المميت يجب أن توجه إلى التطور وليس إلى مصمم، لأن المصمم الماهر، ناهيك عن المصمم الكامل القدرة، لايقع في هذا الخطأ الفادح في تصميم منتوجاته. والخطأ هو هذا:
في معظم الحيوانات، حيث أن رقابهم تمتد بوضع أفقي، يقع المريئ (وهو أنبوبة البلع) تحت القصبة الهوائية. فعند البلع، لايمكن للأكل أن يدخل بالخطأ في القصبة الهوائية كما يحدث في الإنسان بنتائج كارثية وذلك لأن الجاذبية تشده في الحيوانات للأسفل ليدخل في المريئ. أما في الإنسان، فبعد أن تطورنا من الوضع الأفقي الآمن إلى الوضع العمودي عندما وقفنا على أرجلنا، وتطورت لدينا القدرة على الكلام، هذه القدرة اللفظية إستلزمت دفع مدخل المريئ والقصبة الهوائية بعمق أكثر داخل الحنجرة لتمكيننا من اللفظ والمخاطبة، وفي نفس الوقت أصبح إتجاه القصبة الهوائية والمريئ عمودي، وحيث أن عملية التطور ليس لها مصمم ليصحح الأخطاء ويضع تلك الأنابيب في مواضع آمنة ويدقق في صنعه لتفادي أي مشاكل أوخطورة تنتج عن البلع، بل أنها تتقدم بطريقة إعتباطية تسمح بأي منهج طالما أنه يوفي بالغرض، سواءً كانت النتيجة متقنة أو خرقاء كما في وضع المريئ من القصبة الهوائية، فوضع هاتين الأنبوبتين بهذا الشكلية يرفع إحتمال دخول الطعام في المريئ أو في القصبة الهوائية إلى نسبة متكافئة تصل إلى 50% لك منهما. والضمان الوحيد الذي يمنع دخول الأكل في القصبة الهوائية هو الأبيغلوتس أو "لسان المزمار" بالعربية، وهذا الضمان الهام لايغدو عن كونه غطاء مكون من قطعة لحمية غضروفية مرنة تسد عنق القصبة الهوائية عند البلع، ولكنه غطاء غير فعال، إذ أنه يخفق كثيراً في وظيفته التي صمم خصيصاً لها وهي حفظ حياة الإنسان بمنع الطعام والأشياء الأخرى مثل العلكة من دخول القصبة خطأً وسدها، كما تعرفون من تجاربكم الشخصية وتسمعون عن حوادث الموت بالغص.
وضع المريئ من القصبة الهوائية في الإنسان يمثل أحد الدلائل الكثيرة التي تشير إلى أن تركيب الإنسان لايمكن أن يكون قد صدر عن تصميم ذكي ومتقن، إنما يتماشى مع ماتنص عليه نظرية التطور التي تفسر بسهولة أسباب هذه المشكلة السيئة والخطرة. وهذه المشاكل الخلقية ليست الوحيدة التي ييتلي بها البشر، فجسد الإنسان، وباقي الكائنات الحية أيضاً، يمتلأ بمثل هذه العيوب. وسوف أذكر عيوباً خلقية أخرى هامة نعاني منها، وأدرجها في البوست القادم لأن هذا الموضوع طويل لاأريد أن أحشرها كلها في بوست واحد تفادياً للملل.
يتبع .....
تنويه هام: الرجاء عدم إعتبار طريقة إنقاذ الطفلة المذكورة بالقصة أعلاه من الغص هي طريقة سليمة بالضرورة، فقد ذكرتها لأني شاهدتها، إنما الطرق السليمة حسب ماينصح به المركز الطبي لجامعة بنسلفانيا الأمريكية هو إتباع هذه الخطوات الموضحة بالصور:
::
::
::
::
خطورة الغص في الطعام. كيف تعامل الغص في الطعام؟ كيف تتفادى الغص في الطعام؟ لماذ يغص الإنسان في الطعام؟ ماذا تفعل عندما يغص أحد في الطعام؟ ماهي خطورة الغص في الطعام؟ كيف تتجنب الغص في الطعام؟ تجنب الغص في الطعام. ماهي نسبة الذين يغصون في الطعام؟ كم عدد الذين يغصون في الطعام؟ مالذي يسبب الغص في الطعام؟ لماذا يغص الأطفال في الطعام؟ ماذا تفعل إذا غص طفل في الطعام؟
هناك 6 تعليقات:
حوالي 3000 شخص يموت كل سنة بسبب الاختناق من الطعام ! وهو منظر مروع كما ذكرت في القصة. وكل هذا بسبب تشكيل الانسان الجسدي الناقص بفعل التطور. فلو كان جسم الانسان "مخلوق" كما يقول الدينيين فإن الله مهندس أخرق وتصميمه فاشل فكيف يجعل الطعام والهواء في نفس الممر! والكثير من الاخطاء والعيوب الخلقية في جسم الانسان كالاعضاء التناسلية تتشارك في نفس مكان البول ! و الدعامة للظهر لاتتناسب مع وزن الانسان واستجابة الجسم للفيروسات برفع درجة الحرارة لدرجة تؤدي إلى موت لانسان .. كلها تشير إلى أن تكون الانسان عملية طبيعية غير كاملة وغير عاقلة.
عزيزي Godless ،،
الإختناق بالغص مأساة تتكرر، وخصوصاً مع الأطفال الصغار، من السهولة تفاديها لو كان وضع القصبة الهوائية عن المريئ مختلف. ولو كان تكوين جسم الإنسان ناتج عن تصميم ذكي لتحاشى المصمم هذا الخطأ. ووجود مثل هذه العيوب في جسم الإنسان يصعب تفسيره بالحجج اللاهوتية التقليدية والتي تستند في الغالب إلى "حكمة غير مفهومة"، ولكنها تفسر بسهولة من خلال نظرية التطور، وهذه القدرة على تفسير ظواهر الحياة تمثل أحد أهم دعائم هذه النظرية العظيمة.
لك تحياتي
أشوه اني تطورت جان ألحين أنا بسوق الحمام أنباع
أخوي بصيص ..
ما أدري ليش طرى في بالي هالسؤال
ما هي فائدة وجود حواجب الانسان في وجهه؟
أعجبني جدا ربط القصه بموضوع البوست
تحياتي
عزيزتي أم السعف ،،
هناك عدة آراء لوظيفة الحواجب، أحدها يقول أنها تضفي نوع من الحماية للعين، ولكن الرأي الأرجح باعتقادي هو أن الحواجب ظلت بعد سقوط الشعر عن أجسام البشر لأنها تضيف إلى قدرة التواصل بينهم، فعندما يقطب الإنسان حاجباه نعرف أنه حائر أو غاضب وعندما يرفعهما نعرف أنه مندهش وهكذا، فهما جزء من تعبيرات الوجه المهمة لنقل الشعور والأحاسيس إلى الآخرين.
ولو ماتطورنا إلى بشر، جان من باعنا بسوق الحمام؟
الشيمبانزي طبعاً.
لك تحياتي
عيل بعد جم سنه ما راح يكون للحواجب فايده في ظل وجود البوتكس
وراح يصير ويهنا بحاصه
:)
مو ولا مو مو ؟
:))
ثانكيو بصيص
عزيزتي أم السعف ،،
من الممكن أن يصبح الوجه "بحاصة" مع إستعمال البوتوكس إذا توافرت بعض الشروط. ولكن من الممكن أيضاً أن ينقرض مستعمليه إذا فقدوا حواجبهم أو إستعمالها لأنها توفر لهم فائدة بقائية ..
لك تحياتي
إرسال تعليق