الأحد، 15 نوفمبر 2009

روجر لاتغريه الجنة

ين

يوجد عندي سكن في بريطانيا ألوذ إليه لنشقة من النفس وفترة من التنفيس كلما ثَخُنت خِرق التكميم وثَقُلت أغلال التكبيل وطال أمد الصمت وتصاعدت آهات القمت في مجتمع مختنق محبط مشلول يحاول اللحاق بفراريات التقدم العلمي والحضاري التي تسارعت على رمال صحراء جهله إبتعاداً عنه ونفوراً منه واختفت الآن خلف آفاقه الضحلة ، ممتطياً جواداً سقيماً أعور العين ، أعرج بقدم ومكبل بقدمين ، غاطساً إلى بطنه في الطين ، يجر خلفه توابيت أثرية حجرية ، تشغلها مومياء النصوص السماوية ، يصارع تيارات لحيوية مقصقصية ، تعترضه من الجهة المقابلة لتحد من سرعته ، لا بل من بطئه وطياحة حظه ، خوفاً من سقوط المومياء المهترئة العفنة وتهشمها.

ومن قرأ موضوعي السابق ، "أوقفني عن هرولتي سنجاب" ، يعرف أن أحد البيوت المجاورة لملجأي هذا يسكنه رجل متقاعد أسمه بوب. والكلام عن هذا الجار ، بوب ، لايكفيه بوست واحد إنما يستحق رواية كاملة أسرد فيها طرائف تجاربي معه خلال الثمان سنوات التي قضيتها بجواره. ولكن موضوع اليوم ليس عن بوب ، إنما عن جاري الذي يحاذيني من الجهة الأخرى ، وهو إنسان ، أو بتعبير أدق ، ظاهرة بايولوجية إجتماعية ، قلما تراها ، أطلق عليها منتجينها ، أبوه وأمه ، أسم روجر.

وماالغريب في روجر هذا الذي يُشبه بظاهرة نادرة الحدوث لعلكم تتسائلون ، دعوني أبدد غمامة حيرتكم.

هو مجرد رجل ، في العقد الثالث من عمره ، إنجليزي المولد ، يعمل في إحدى الهيئات المالية ، متزوج من سيدة في منتهى الخلق والثقافة الجمال ، له منها ولدان لم يبلغى العاشرة بعد ، ويملك البيت المجاور لبيتي بالإضافة إلى أملاك أخرى متناثرة هنا وهناك. هذا باختصار روجر.

إنما الصفات التي تجعل هذا الرجل أقرب مايكون إلى إله منه إلى إنسان هو تمتعه بميزات وخصائص وقدرات تسربت من عالم الأمنيات التي يعيش أغلبنا فيها وتجسدت فيه. فأول مايُبهر أي شخص يراه للمرة الأولى هو درجة جمال وجهه ، ولاأقول وسامته لأن هذه العبارة لاتعطيه حقه في الوصف ، بل جماله ، إذ لو رأى النبي يوسف عيونه الفيروزية البراقة ، وشعره الذهبي المنسدل إلى أكتافه ، وملامحه الدقيقة المتكاملة لاستشاط غيرة وغضباً منه واحتج بسببه إلى ربه.

يحمل هذا الرأس الميثولوجي جسم طويل أثليتي ممشوق ، نحتته سنوات من الممارسة والتفوق الرياضي ، وتوجته صحة ونشاط وحيوية لم يعاني بحياته من فضلها حتى من صداع ، ويملأه عقل ثاقب متوقد ضخم غذته ثقافات جامعتي ييل وأوكسفورد الدسمة.

أما عن الأصالة والجاه والمال ، فهو غاطس فيها إلى أذنيه ، كونه سليل طبقة العروق الزرقاء الأوربية ، وله حصة من الثراء الموروث مايغطي نفقات عيشته البذخة هو وأولاده وأحفاده دون الحاجة إلى المنصب الوظيفي المالي الذي يحتله الآن والذي يسكب في حساباته البنكية راتب تتعدى أرقامه لكثرتها أرقام هواتفه.

هذه هي صفات روجر ، الظاهرة البايولوجية الإجتماعية.

عندما قابلت هذا الرجل لأول مرة قبل خمسة سنوات ، كانت من خلال دعوة منه ومن زوجته لي لتناول العشاء معهم في بيتهم كمناسبة للتعارف حين نزلا فيه ، عرفت من خلالها خلفيته الطبقية والإمتيازات التي يتمتع بها ، ولكني لم أدرك إلاّ بعدها بفترة المستوى الشاهق لهذه الإمتيازات المتكدسة فيه. فبدأ يتبلور حينها سؤال في ذهني عما إذا كان روجر ، ومن في وضعه ، بحاجة إلى أي شئ آخر من الدنيا ، أو من الآخرة ، فمن الواضح أن كل مايطمح إليه أي رجل في آخرته يمتلكه هذا الإنسان في دنياه ...

فهل تُغري روجر الجنة ؟

قطعاً لا ، وإلاّ لما ألحد. آآآه ، المعذرة ، لقد نسيت أن أذكر أن روجر ملحد ، ولم لا ، فهو لايحتاج إلى إله كونه هو إله ، أو شئ من هذا القبيل ، ولكن هل يدرك روجر أبعاد هذا المفهوم ، أقصد الجنة ، من المنظور الإسلامي "المتكامل" ، وإغراآته الربانية التي يتوقع منها أن تتعدى قدرة البشر ، والآلهة الأخرى مثل روجر ، على مقاومتها ، وهو الكائن الذي وُهِب في هذه الدنيا ، على مايبدو ، بكل المكافآت التي تنتظر المؤمن في الجنة حتى لم يتبقى فيها مايشد أمثال روجر إليها ؟

لم يتسنى لي أن أطرح هذا السؤال عليه بسبب نفوره الشديد من الخوض في بركة النفايات اللاهوتية ، وظل التساؤل معلق يتدلى من سقف ذهني كالمصباح ، يشتعل وينطفئ بين حين وآخر ، إلى أن أتتني الفرصة تهرع مادة يديها لتعانقني من جهة لم أتوقعها عندما رافقته في إحدى أمسيات الصيف الماضي إلى إحدى جلسات تذوق النبيذ في إحدى بارات البيانو الفاشنوبل الأنيقة في لندن ، حيث تُقدم فيه خلاصة عصارات أعناب أقاليم برغندي وبوردو ، وتعبق أجوائه عطور نغمات دوبوسي وساتي ، وتتمايل لوقعها خصور حسناواته الباهرة ، وتتراقص على جدرانه أطياف أضوائه الساحرة. وبينما أنا ذائب في نشوة الخمر ورومانسية النغم ، أختلس النظرات وأتبادل البسمات مع الجميلات الجالسات على الطاولة المقابلة ، إذا به يسألني هو بنفسه وبدون أي مقدمات عن مدى صحة الإثنين وسبعين حورية التي تنتظر شهداء العقيدة الإسلامية في الجنة ...

"ماذا قلت ياروجر ؟ .... العقيدة الإسلامية ؟؟؟ .....

"يــــاإلـه ســـــبينوزا .... "

إنطلقت صرخة مكبوتة مني دوى صداها في أجواء عالم الأحلام والنشوة التي كنت أتمرغ في ملذاتها قبل وهلة ، لم يسمعها أحد غيري ..

"وهل هذا وقت نقاش ديني تطرد فيه ملائكة السعادة المحرمة ؟" همست لنفسي رداً على سؤاله المقيت بسؤال إسعافي عاجل رجوت منه أن ينتشلني من منزلق الإنحدار إلى هوة حوار ديني بائس ليرجعني إلى فردوس الملذات الآثمة التي كنت هائماً في ربوعها ، ولكن لحظة ... أليست هذه هي الفرصة التي كنت أتطلع إليها منذ سنوات ، مدت يدها لي الآن ، فهل أدفعها عني ؟

يالتعاستي وعثرة حظي ، ليت تلك الحورية الأرضية الشقراء ، ذات العيون الناعسة الزرقاء ، والوجنات الناعمة الورداء ، والخصر المائل النحيل ، والنهد الغاوي الثقيل ، والكتف العاري الجميل ، الجالسة أمامي ، تحيط بها هالة نورانية تتوهج دلعاً ، كلما مالت برأسها نحوي يشتبك بريق عيناها الساحرة بلمحات نظراتي التائقة في عناق شهواني متقد يتمرغل على سحب الغزل ، تضطرم على وساداته نيران الرغبة وتحتدم لهفة الأمل ، أتت لتعانقني بدلاً من تلك الفرصة المتطفلة. ولكن لاضير ، فالنخرج من ربوع الفردوس ونتخوض في أوحال المستنقع لبرهة إذا كان هذا هو السبيل الوحيد لغمس شعلة الفضول في مياهه العكرة وإطفائها ، بشرط أن نرجع إلى دنيا الطرب والخمر والوجه البهي ، ونغتسل من أرجاس اللاهوت في أحواض ملذاتها.

وهكذا ، إقتلعت نفسي من غفوتي وأحلامي واستدرت لأواجه روجر رافعاً الكأس إلى فمي لجرعة ثقيلة من نبيذ الشاتونيف دو باب رددت عليه بعدها :

"نعم روجر هذا صحيح ، يكافئ الإله الإسلامي الشهيد بمنحه 72 فتاة عذراء في الجنة"

أجبته بنبرة حازمة لأؤكد صدق الرواية ، أتبعتها بجرعة ثقيلة أخرى من النبيذ المعتق الأحمر أحسست معها بالدفئ ينزلق في جوفي وينتشر في عروقي.

"72 فتاة ، بكر .... هممممم"

تمتم روجر الرقم مكرراً ردي وكأنه لم يستوعبه في المرة الأولى ، سكت بعده للحظات قصيرة محدقاً في ماتبقى من النبيذ في كأسه ، ثم أدار رأسه لي وقال بعد وهلة من التردد :

"ولكن 72 فتاة عدد كبير ، ولماذا 72 بالذات .... هل لهذا الرقم أهمية ؟

يالغباء السؤال ياروجر .... هذه بلاهة لم أعهدها منك ، أنت بالذات صاحب الفكر الثاقب ، ألم ترى أهمية هذا الرقم وهي جلية واضحة ؟"

أجبته بنبرة ساخرة متعمدة لأستفزه عسى أن أحصل منه على أحد تعليقاته الهزلية اللاذعة لتبهج الحوار الذي كان يجول في ربوع المرح قبل أن يأخذ منعطف الجد مدركاً الصعوبة البالغة في استفزازه.

ولكن روجر ، بعكس توقعاتي ، جمد في مكانه من وقع جوابي الوقح ، وأخذ يتفرس في وجهي تارة وتارة أخرى يحدق في الأرض في محاولة يائسة للبحث عن قشة عذر أو حجة يكنس بها شظايا كبريائه المنسوف. ولكن وقع الصدمة لم يدم إلاّ لحظات وجيزة عادت بعدها البشاشة إلى وجهه ، فأمسك قنينة النبيذ وملأ النصف الخالي من كأسي قبل أن يملأ كأسه ويسند ظهره مسترخياً على الكنبة ويشير بأصبعه لي والكأس بيده :

"أنا أستسلمت ، أنت أنرني ياصاحب القداسة ، فأنت أعلم بمغريات دينك مني"

وأخذ رشفة من النبيذ ، ووضع كأسه بعدها على الطاولة وشبك يديه خلف رأسه ينتظر ردي.

"ديــنــي ياروجر ؟ ..... ديــــنــــي ؟؟؟

رميته بنظرة عاتبة على زلة لسانه التي يبدو أنها متعمدة لمبادلتي بالإستفزاز؟

"إليك هذا الإشعار الأهم من مدلول رقم 72 الذي فتحنا هذا الحوار بسببه ... لم يكن لي خيار في قبول أو رفض مانسبته لي من دين ، فقد جاء في نفس الحزمة التي احتوت على لغتي وحضارتي وأسمي ، وبينما أفتخر بالإحتفاظ بمحتويات هذه الرزمة ، إلاّ أن هذا هو العنصر الوحيد الذي التقطته منها بقرصة إصبعين ، حفظاً على باقي أصابعي من التلوث ، ورميته في برميل القمامة ليأخذ إلى المحرقة. فعندما تشير إلى الإسلام كـ "ديني" فأرجو أن تسبقه بحرف الـ "لا" مراعاة للدقة والأمانة في وصف موقفي منه وتفادياً لتلوين قميصك الأبيض الأرماني الثمين بالصبغ الأحمر الذي ملأت للتو به كأسي .. ياصديقي العزيز روجر"

لم ينجح أحدنا في استفزاز الآخر ، فهو لم يكترث بتهديدي الأجوف بسكب النبيذ على قميصه المفضل وقام إلى البار ليرجع بقنينة نبيذ جديدة مع كأسين نظيفين وضعهم على الطاولة وجلس بهدوء يتكأ بكوعه على يد الكنبة ويرمقني قائلاً بلهجة ساخرة :

"لازلت أنتظر .. لعلك الآن تمنحني شرف معرفة أهمية الرقم 72 في لادينك الإسلامي ؟"

شعرت ، في الحقيقة ، بأنني محاصر في زاوية يتحتم علي أن أجد لها مخرجاً لتفادي آلام لسانه اللاذع وسخريته الحارقة إذا ماأبحت له بجهلي التام عن معنى هذا الرقم ، فقد فشل عباقرة التفسير وجهابذة التأويل من فك الطلاسم والرموز الربانية التي أحكم الإله محمد تشفيرها ، ولم أرى لي مخرج سوى أن أصطنع لي سبباً أتملص فيه من هذه الورطة وأتخلص من مراودة الفضول القابع في ذهني عن رغبة روجر في الجنة. مالي ومال الاخرون والجنة حتى أعكر صفاء هذه الأمسية وأبدد بهجتها ، ولكني لابد أن أتخلص من طنين هذا السؤال في أذني ، فأعدلت جلستي وملت بجسمي نحوه وصَمَت لوهلة لأرفع من حدة تحسبه وترقبه للرد ... وهمست :

"لأن الله يريد ذلك"

لم أذكر له حالة الإفراز التستستروني المفرط الذي يعاني منه ذكور المجتمعات المحمدية وأساليبها الوقائية والعلاجية المستمدة من نصوصها وأحكامها الإرضوسماوية الشعوذية ، والتي أكدت بدورها قدرتها الفعالة بامتياز رفيع في تسبب هذه الحالة المحرجة أصلاً ومايترتب عليها من هوس جنسي جامح ، مصاحب بتشنج وتوتر عضوي مزمن ، مما يفسر الزيادة المبالغة في عدد الوصفات ، أو بالأحرى الوصيفات ، الدوائية المخصصة لكل مصاب ، والتي لايمكنه تناولها لإسعاف حالته الراهنة إلاّ بعد موته وذهابه إلى عالم لايحتاج فيه إلى دواء من أي نوع. أرأيتم المنطق الذي يتبعه ربع سكان العالم ؟؟؟

"الــلــه يــريــد ذلــك ؟"

كررها روجر ممدة وبصيغة سؤال حتى أأكدها له مرة أخرى.

"نعم ياروجر ، الله يريد ذلك ، ولو سألت أي مؤمن ، من الطفل إلى الشيخ ، لماذا البطيخ كروي وليس مربع أو لماذا القرع أصفر وليس أزرق أو سألته عن أي سبب أو علة أخرى فسوف تحصل على نفس هذا الرد. ألم أقل لك أن أهمية هذا الرقم ، بل إهمية كل الطلاسم الرموز ، واضحة وجلية ؟"

إسترخى روجر في جلسته بعد استيعابه لهذه القنبلة المعرفية وأخذ يهز رأسه صامتاً في أيمائة إيجابية أفرغ بعدها نصف كأسه الممتلئ في جوفه ثم شرع يتمتم معاتباً نفسه :

"صحيح ... لايمكن الإختلاف على هذه النقطة ، فهي الشماعة التي يعلق عليها كل مؤمن مغدور شكوكه وتساؤلاته - الله بربد هكذا - سُدت الثغرات وأُزيح التساؤل وانتهى الأمر ، نعم هذه بلاهة مني ، كان علي أن أكون أفطن من ذلك"

ورفع الكأس إلى فمه ليغرغ فيه النصف المتبقي من النبيذ بجرعة واحدة غاص بعدها في نوبة من التأمل ينظر فيها إلى زاية السقف وكأنه يتفرس فيما تخفيه ورائها.

خيّم الصمت على فناء الكنبة التي تحتضنا وكأنما فقاعة شفافة من السكون قد غلفتنا وعزلت عنا نسمات النغم والهمس والضحكات وقرعات الكؤوس التي تهب تارة وتعصف تارة أخرى حولنا. فاستدرت إلى روجر لأنتشله من غرقه في أجواف تأملاته ولأخرق الفقاعة التي عزلتنا عن العالم الذي جئنا لنبدد همومنا في أجوائه و نمرح في أحضانه.

"روجر" ، ناديته بصوت خافت ، "مارأيك في الجنة ؟"

"الجنة ؟ ... أي جنة تقصد ، هذه الجنة ؟" ملوحاً يده حوله ، "أو تلك الجنة ؟" مشيراً إلى الأعلى.

"تلك الجنة" ، وأشرت بأصبعي إلى الأعلى.

"آآآه ، لاأدري ، فلم أذهب هناك قط ، ولاأعتقد بأنني مرحب بي عندهم حتى لو أوصلني نيافته إليها بنفسه بتذكرة الدرجة الأولى على متن جناح جبرائيل. ولكن على أي حال ، لاأرى شئياً ينتظرني لأتمتع به في السماء لاأستطيع الحصول عليه لأتمتع به هنا على الأرض ، فلست بحاجة إلى 72 حورية ، إذ تكفيني حوريتي التي تنتظرني في البيت ، أحبها وتحبني حتى الموت ، وإن أغوتني الشقاوة لغيرها فهاهم تلك الحوريات أمامنا جالسات على طاولة الإنتظار وغيرهن اللاتي تعج بهن هذه الدنيا ، كما أنني أملك أكثر من كفايتي من الممتلكات المادية وصحتي أقوى من الفرس ، فهل توجد إغراءات أخرى في تلك الجنة الموعودة تعرفها أنت ولاأعرفها أنا ؟

وأتى أخيراً الجواب الذي قضيت خمسة سنوات في انتظاره مطابقاً لتوقعاتي ، ولم يستحق كل هذا التطلع والإنتظار فقد خمنت صحته مسبقاً ، ولكن مهلاً ، دعني أرى إذا كانت هناك جوائز ربانية أخروية ما قد تغري روجر في الدخول في مسابقة الأولومبياد الدنيوي الديني للحصول عليها.

"أو كي روجر ، وماذا عن الخلود ، ألا تغريك حياة تتدغدغ فيها كل شعرة من بدنك ، وتفرح فيها كل خلية من لحمك ، وتُبهج كل قطرة من دمك ، تنام وتصحى عليها باستمرارية أزلية متواصلة لاتتوقف ولاتنتهي ؟"

نظر لي روجر بصمت لبرهة ثم رفع كأسه وقال :

"هل أفهم من كلامك أن هذا النبيذ لايعجبك ؟"

وهكذا ألحق جوابه الأول الحاسم برد آخر قاطعاً كالموس وإن حاول إخفائه خلف قناع الإبهام ، فالرجل لايفرق بين السعادة الأبدية والنشوة العابرة التي يشتقها من كأسه ، شعرت بعدها أنه من العبث أن أتابع هذا الخيط من التساؤلات بعدما أشبع ردوده فضولي حتى التخمة ، فمددت يدي ورفعت قنينة النبيذ وملأت كأس روجر ثم كأسي واستدرت لأواجه تلك الحورية الأرضية الشقراء ذات العيون الناعسة الزرقاء والتي أثملتني نظراتها أكثر مما أثملني نبيذ الشاتونيف المعتق الذي استنفذنا منه قنينتان إلى الآن رغم أن المساء لايزال مبكراً. هذه المسكينة التي اقترفت بحقها ، وحقي ، جريمة كبرى حين أدرت رأسي عنها وأهملتها كل هذه الدقائق ، لاتغفرها إلاّ دعوة شخصية مني لها ، ولصديقاتها ، لمشاركتنا في قنينة من الشمبانيا.

فاستدرت مرة أخرى إلى روجر لأسأله :

"شمبانيا ياروجر ؟"

"ولم لا"

"هلا يشاركنا بها أحد ؟" مشيراً إلى البنات أمامنا.

"لاأمانع"

"عظيم"

وقمت تحملني سحابة السعادة ويدفعني نسيم النشوة لأدعوها لتجلس بقربي وأنا أتمتم لنفسي :

"جنة أرضية بيدي خير من عشرات الجنات في السماء"