الجمعة، 14 مايو 2010

عند وفاة بانزي الشيمبانزي

::

عندما تُقابل على الطبيعة أحد أفراد فصائل القرود العليا - الأورانغ أوتان أو الغوريلا أو الشيمبانزي - وتتمعن في وجهه وتحدق في عينيه عن كثب، كما فعلت أنا مرة في أحد حدائق الحيوان، سوف ينتابك شعور غريب كإنما يشدك شيئاً ما نحوه، ويخطر ببالك تساؤل يصعب تفاديه: هل هذا المخلوق الذي تنظر إليه وينظر هو إليك هو مجرد حيوان، أم هو أعلى من ذلك؟

خلال زيارة لنا لتلك الحديقة، وقفت أختي المتدينة المحجبة مع زوجها قربي، تتمعن هي الأخرى في الشيمبانزي الذي كان جالساً خلف اللوح الزجاجي الذي يعزلنا عنه بمسافة لم تتعدى النصف متر، ونظرت إليه بصمت لوهلة وهو بدوره يحدق بها ثم ألتفتت إلى زوجها قائلة بنبرة يشوبها بعض التردد:

"سبحان الله، كأنه بني آدم"

ليجيبها زوجها بهمهمة، أظنها كانت إيجابية، وإيمائة من رأسه، غير قادر، كما يبدو، على فك عقدة لسانه أو رفع عينيه المُسمّرتين عن منظر ابن عمومته الجالس أمامه بكل هدوء ووقار عبر الحاجز الزجاجي، أعقبتها ملاحظة طريفة وصادقة، صادرة هذه المرة من المربية الفلبينية المرافقة لهما والواقفة خلفهما مفادها:

"سَه ماما، هاسا سوية سوية مِسِل أسّوس، بس أسّوس هيلو، هاسا سادي مو هيلو".

وترجمتها: "صحيح يا سيدتي، هذا يشبه عَزّوز نوعاً ما (عبدالعزيز، إبنهما المزعج ذو التاسعة)، إنما عَزّوز جميل وهذا القرد ليس كذلك"، مما حدى عَزّوز الواقف أمامها بين أمه وأبيه إلى الإستدارة ورفسها على رجلها إبداءً لاحتجاجه على هذا التشبيه. وقد خطر ببالي في تلك اللحظة أنه لو فهم الشيمبانزي ماكان يجري من حوار بينهما لاحتج هو بدوره على تشبيهه بهذا الكائن المزعج.

عندما تلفظت أختي بتلك الملاحظة بشكل عفوي عابر، لم تُقدّر في تلك اللحظة أبعادها العلمية وأصدائها السلبية على عقيدتها الدينية، ولو أدركت ذلك لما تفوهت بها. فالأدلة الجينية اليوم قد أنزلتنا من المنصة الآدمية التي تربعنا عليها بجهلنا لعشرات القرون وأكدت بأننا نحن البشر لسنا سوى أحد فصائل هذه القردة العليا، لانختلف عنها إلاّ بمقدار أقل من 2%. فلا عجب إذاً من الإنطلاق العفوي لذلك الإعتراف الذي نبع من باطن العقل لِيُقِر القرابة، حتى من أشد الناس تديناً ومقاومة للفكرة.

وفي واقع الحال، أن التشابه الكبير بين فصائل هذه الحيوانات، ومنها البشر، لايقتصر على الأدلة المخبرية كالتطابق في الشفرة الجينية فحسب، بل ينعكس أيضاً، تحت التأثير الجيني، على التشابه المدهش بين سلوكيات هذه الفصائل وتصرفاتها تجاه بعضها البعض ضمن الخلية الإجتماعية التي تربط أفرادها. خذ هذا البحث كمثال:

أجريت دراسة على مجموعة من الشيمبانزي في إحدى حدائق الحيوان في اسكتلندا، حيث وضعت كاميرات فيديو في قفصهم لتسجيل تصرفات أفراد المجموعة تجاه أنثى مُسِنّة منهم إسمها بانزي، إذ كانت على وشك الموت بعد معاناتها من مرض لم يستطع البيطريون علاجه. وهذا ملخص للمشاهد التي تم تسجيلها بالفيديو والتي يتبين منها مدى التشابه الكبير في تصرفات الشيمبانزي مع التصرفات البشرية نحو وفاة فرد منهم:

خلال الأيام الأخيرة قبيل وفاة بانزي، كان هناك تغيّر ملحوظ في تصرفات المجوعة لم يكن معهوداً منهم من قبل، فقد كان الهدوء يسود المجموعة أكثر من العادة وكانوا يبدون اهتماماً بها أكثر مما أبدوه لها في السابق، وحتى نظام نومهم قد تغيّر أيضاً. وعندما لفظت أنفاسها الأخيرة، أخذ بعضهم يلمس فمها ويتحسس أطرافها كما لو أنهم كانوا يريدون التأكد فيما أنها قد ماتت أم لاتزال حية. وبعد مرور بعض الوقت على موتها، حاول أحد ذكور المجموعة أن يهاجم جثتها كما لو أنه كان يحاول إيقاضها بأسلوب التخويف. وعندما حل المساء، ظلت أكبر بناتها بقرب أمها المتوفية طوال الليل، في حين أن بلوسوم، وهي أحد الإناث في المجموعة، ظلت ترعى إبنها الصغير واسمه شيبي لمدة أطول بكثير من المعتاد. وفي الصباح تجمع أفراد المجموعة حول جثة بانزي وأخذوا ينضفون شعرها من القش المتراكم عليه.

ولعدة أسابيع من بعد موت بانزي، كان الهدوء وقلة الحركة لايزال يخيّم على المجموعة وكانت شهيتهم للطعام أخف من العادة، كما لوحظ أنهم كانوا يتحاشون النوم على البقعة التي توفت عليها.

للأسف أننا لانستطيع التواصل مع هذه الحيوانات لنتأكد من أن هذه التصرفات تجاه موت أحد أفراد المجموعة يعكس شعورنا وتصرفاتنا نحن تجاه وفاة أحدنا. ولكن التشابه بين الفصيلتين في السلوك مدهش حقاً، وليس هذا بغريب إذا كنا نحن الفصيلة البشرية أقرب جينياً لفصيلة الشيمبانزي من القرابة الجينية بين الشيمبانزي والغوريلا، ونحن والشيمانزي أقرب جينياً من قرابة الفأر الصغير للجرذ الكبير (مع احترامي للكائنات البشرية الجميلة المترفعة التي قد تمتعض من هذا التشبيه، ولكن مايدريكم أن تلك الجرذان لاتنظر إلينا بازدراء كما ننظر نحن إليها، فالنظرة نسبية والجرذ بعين أمه غزال - كما يقول المثل).

وهذا تسجيل لفيديو كليب وفاة بانزي (بدون صوت) :
::


* * * * * * * * * *
هل تحزن الحيوانات عند موت أحدها؟ هل تبكي الحيوانات؟ هل تبكي الحيوانات عند موت أحدها؟ هل يوجد للحيوانات شعور؟ هل تستاء الحيوانات عند موت أحدها؟ هل تستاء الحيوانات من الموت؟ هل تقتقد الحيوانات أحدها بعدما يموت؟ ماذا يحدث للحيوانات بعد موتها؟ هل للحيوانات روح؟ هل توجد روح للحيوانات؟ ماذا يحدث لروح الحيوانات بعد الموت؟ أين تذهب أرواح الحيوانات بعد الموت؟ هل تفهم الحيوانات الموت؟ هل تخاف الحيوانات من الموت؟ هل تعزي الحيوانات بعضها بعد موت أحدها؟ ماذا تفعل الحيوانات عند موت أحدها؟ هل يدرك القرد معنى الموت؟ هل تدرك القرود معنى الموت؟ هل تدرك الفيلة الموت؟ هل تدرك الفيلة معنى الموت؟ هل تحزن الحيوانات على موت أصحابها؟ هل يحزن الحيوان على موت صاحبه؟ هل يحزن الكلب على موت صاحبه؟ هل تحزن الخيل على موت أصحابها؟ هل يحزن الحصان على موت صاحبه؟ هل بكى الحصان على موت الحسين؟

هناك 6 تعليقات:

Pure يقول...

!Woooooow

ما أروعـــك!
وما أروع أسلوب السرد

أبرزت موهبتك في السرد الممتع
في هذا الموضوع المؤثر

هذا البوست
من أجمل ما كتبت

ابدأ دائمًا هكذا بمقدمة
ثم بالتدريج خذنا للموضوع

هكذا أسلوب المعلم الفنان!

غير معرف يقول...

عزيزي بصيص

مبدع كعادتك
او كما يقول نبيل شعيل اقتباسا من العزيزة بيور
ما أروعـــك!

اذكر عندما اردت ان اعرض فيديوا للحيوانات لإبنة اخي الصغيرة (سنة من العمر تقريبا)
صاحت بفرح عندما شاهدت قردا رضيعا "بوبو"، واقتربت من الشاشة لتقبله

لا اعرف لما تكون حواس واسئلة الاطفال اكثر وعيا من "مثقفين" العرب

تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي Pure ،،

القصة فعلاً مؤثرة وتُبيّن مدى قرابة سلوكيات هذه الحيوانات لنا.

نأمل أن تكون هناك وسيلة يوماً ما تمكننا من التواصل معها لنعرف من خلالها فيما إذا كان لهذه الحيوانات وعي لمفاهيم نعتبرها بشرية كإدراك الذات وحتمية الموت.

وقد أسعدني إعجابك بالمقالة وأحاول جاهداً دوماً أن أرتقي بمستوى الطرح وأسلوب السرد ولوأن الإنتاج النهائي سوف يتأثر بالمزاج والوقت وعوامل أخرى خارج سيطرتي.

وتقبلي ياعزيزتي تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي Moral ،،

تصرف إبنة أخيك الصغيرة تجاه فيديو القرد الرضيع جدير بالإهتمام، ويُبرز الشعور الغريزي الذي ينتابنا حين نقابل أحد أشد الحيوانات قرابة لنا ويكتسب أهمية أكبر حين يصدر من طفل لم يتأثر بأعراف محيطه بعد.

حقاً أن أسألة الأطفال وحواسهم في حالات كثيرة تحمل معنى أعمق مما يصدر من "مثقفين" العرب ... إلى أن تبدأ قلب المفاهمي وغسل الدماغ فينظمّوا إلى صفوفهم.

سُررت بإعجابك بالمقال ياعزيزي
ولك تحياتي

Pure يقول...

الآن فقط
شاهدت الفيديو

شي عجيب

أنا
عندما أنظر في عيني القطة
أشعر أنني أقهمها وتفهمني

"سبحان الله"

أؤمن
بأن كل منا
يشبه حيوان ما في صفاته

هل تعتقد ذلك؟

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي Pure ،،

نعم، أعتقد ذلك. لأننا نتفرع من نفس الشجرة التي تحوي باقي الكائنات الحية. فلابد إذاً أن يكون هناك الكثير من الأوفرلاب overlap في الهيئة والصفات والسلوكيات لأعضاء هذه العائلة الكبيرة، وكلما قرب التناسب زاد التشابه وهذا مانلاحطه في الواقع.

مع تحياتي