الاثنين، 23 أغسطس 2010

زيارتي إلى معرض غونثر

::
غونثر فون هاغن

(تنبيه: هذا الموضوع قد يسبب نكدر لبعض القراء)

كنت متردد في البداية فيما إذا كان باستطاعتي مواجهة معروضات غونثر فون هاغن التي لن أصفها في مستهل هذا البوست إلاّ بالـ "غير تقليدية"، ولكن فضولي الشديد تغلب على ترددي وغمر مخاوفي من المجهول برغبة تحولت إلى إلحاح يحثني على الإستعجال في الزيارة قبل أن يمتثل المعرض إلى الحكم الصادر ضده بالتوقف عن العرض ويغلق على أثره أبوابه في آخر يوم له في لندن ليغادرها بلا رجعة.

كنت قد سمعت قبلها عن الألماني غونثر فون هاغن ومعروضاته الغريبة من خلال الضجة الإعلامية والجدل الذي كان يلاحق معرضه المتنقل أينما نزل بسبب إستياء بعض الناس من طبيعة المعروضات التي تنقسم الآراء في واقع الحال في تحديد ماإذا كانت تنافي كرامة الإنسان أم تساهم في توسيع أفقه المعرفي. وبالرغم من تلك المعارضة والجدل الذي يثار حوله فقد نجح المعرض في زيارة الكثير من عواصم دول العالم وحاز على استحسان أغلب زواره. فعندما أتي إلى لندن في مارس عام 2002، لم أستطع مقاومة الرغبة في مشاهدة هذه المعروضات، فأخذت قطار الأندرغراوند وذهبت لوحدي بعدما اعتذر جميع الأصدقاء الذين اقترحت عليهم المرافقة عن الذهاب إليه.

صادف ذلك اليوم عطلة الأحد الذي أجد فيه دائماً رتابة مملة وهدوئاً كئيباً مالم أشغل نفسي فيه بنشاط ما، يكون رياضي في العادة لأنه أكثر النشاطات فعالية في تبديد الرتابة والكآبة معاً لقدرته على إلهاء العقل وتشغيل الجسد في آن واحد. ولكن عزمي على زيارة المعرض في ذلك اليوم سلبني من هذا النشاط وحرر مخيلتي لتنطلق طوال رحلة القطار في أجواء متقلبة من الترقبات للمشاهد المسيئة التي سوف أجدها هناك، أضاف إلى تلك التخيلات التي كانت تدور في ذهني شيئاً من الغموض منظر الرجل المسن الشاحب الجالس أمامي في المقطورة وهو فاتح فمه، يحدق بعيناه الغائرتان في نقطة ما على زاوية السقف من فوقي، لم يزح النظر عنها طوال الرحلة. ربما كان يحلق في أجواء ذكربات الصبا، أم هل هو الخوف من مجهول الغد قد سَمّر نظرته؟

ترجلت من القطار بعد رحلة استغرقت قرابة الثلاثين دقيقة وخرجت من المحطة ليستقبلني رذاذ المطر وعتمة الجو الغائم وخلاء الشارع على مايبدو من أي حركة تشير إلى وجود حياة فيه، فقد كان الموقع الذي أختير لإقامة المعرض مقفراَ كالمقبرة، مما لايترك مجال للشك في أن الخيار كان متعمداً. ولكن قاعة العرض على الأقل لم تكن بعيدة عن المحطة، ففتحت مظلتي لاحتمي تحتها من رذاذ المطر وبدأت بالمشي إليها.

وعندما وصلت إلى صالة العرض التي يحتويها مبنى أشبه بمخزن متهاوٍ منه بمعرض دولي، دخلت من البوابة الزجاجية الحديثة التي تتنافر بدورها مع الطابع الفيكتوري القديم للواجهة الكلاسيكية لتزيد من حدة الشعور السلبي المتضارب الذي كان يكتنفني، وصعدت الدرج الخشبي الذي يؤدي إلى صالة العرض على الطابق الأول وأنا أتسائل عن طبيعة الرائحة البلاستيكية الغريبة التي تعبق البهو والتي لاأستطيع وصفها إلاّ بأنها تشبه رائحة الأجهزة الإلكترونية عندما تسخن. فدفعت رسم الدخول ودخلت القاعة.

بالرغم من أنني كنت على معرفة تامة مسبقة بطبيعة المعروضات التي جئت لأشاهدها، وبالرغم من أنني قد هيأت نفسي معنوياً، كما ظننت، للمشاهد العجيبة التي كانت تنتظرني، إلاّ أني لم أتحسب هول الصدمة التي انتابتني عندما وقفت وسط القاعة الصغيرة، على مقربة لاتتعدى المتر أحدق في الرجل الجالس يلعب الشطرنج وقد سلخ جلده وأزيل تماماً عن جسده، لتظهر أنسجة عظلاته المفصّلة حمراء كلحم الذبيحة مع أوعيته الدموية ظاهرة بكامل أنبوبيتها وأربطته الغضروفية مفصلة خيطاً خيطاً وهامة رأسه مزالة ليظهر مخه بكامل تعاريجه وأخاديده. ثم ألتفت لجانبي لأنظر إلى شخص آخر يقف منتصباً مسلوخ الجلد تماماً وقد فُتح صدره كالباب لتُكشف أحشاءه، وشُرّحت عضلات صدره وبطنه لتبدوا وكأنها أدراج خزانة مفتوحة. وإلى جانبي الآخر منظر هائل لحصان كامل مسلوخ الجلد يمتطيه راكباً مسلوخاً أيضاً ومفلوق الجمجمة، يحمل سوطاً بيد ومخه باليد الأخرى. وألتفت ورائي لأرى شخص آخر مفصول نصفين، من قمة رأسه إلى فرجه، يبعد كل نصف عن نظيره بفجوة قدم، في منظر يجهد العقل في استيعابه كونه قد تعود على رؤية الإنسان قطعة واحدة وليس شقين منفصلين.  

وقد يكون أصعب المشاهد تحملاً وأقساها على النفس في تلك القاعة الجنائزية هو منظر إمرأة مسلوخة حامل، مفتوحة البطن، يُرى داخلها جنينها الكامل البنية نائماً في سباته الأبدي، وقد سلبته المنية، كيفما أتت، الفرصة في تذوق رشفة من طعم الحياة.

وتصطف تشكيلة منوعة من تلك الأجساد التمثالية المسلوخة المهولة، بأدق تفاصيلها التشريحية المروعة على جانبي الممر الطويل الذي يقطع القاعة. إلاّ أن هذه الأجسام ليست بتماثيل صناعية، إنما هي جثث حقيقية لناس قد ماتت مؤخراً ووهبت من قبلها أجسادها هدية للعلم - والإستعراض - تتناولها يد غونثر فون هاغن  لتُظهر من خلالها مهارته التشريحية وموهبته الفنية.

غونثر هو دكتور أخصائي في التشريح، طور خلال السبعينيات طريقة في التحنيط تسمى بـ "البلستكة" Plastination (المصطلح العربي من عندي) تمنع الجسم من الذبول أو التحلل وتحتفظ بشكله الطبيعي كما لو كان الجسد حياً. وهذه الطريقة المتقدمة في حفظ الجسد حققت نجاحاً كبيراً في الاستخدامات العلمية وانتشر تطبيقها في الكثير من المؤسسات الطبية والتعليمية في كافة أنحاء العالم، كما أنها حققت نجاحاً كبيراً وشهرة دولية لغونثر شخصياً مكنته من إقامة تلك العروض الجنازية المتنقلة والتي استقطبت إلى الآن عشرات الملايين من الزوار ودرت عليه دخلاً مادياً وصل إلى 75 مليون دولار في عام زيارتي لمعرضه في 2002 منذ بدأ عروضه، ولاأدري كم وصلت الأرباح اليوم.

لم أمكث طويلاً في المعرض، بعد أن تشبع أنفي وحلقي وملابسي من رائحة الفورمالديهايد الكيميائية الحافظة، أو ربما الأنسب أن أسميها رائحة الموت، والتي ظلت عالقة في ملابسي والأسوء من ذلك في فمي لعدة أيام بعدها، ولم أعد أحتمل مناظر تلك اللحوم البشرية المحنطة بأوضاع طبيعية حية يصعب على العقل أن يتقبل أنها جثث لاتغدوا عن كونها الآن مجرد أشكال من الخلايا الميتة أوقفت الكيميائيات إنحدارها إلى هاوية التحلل والفناء، وليست بشر أحياء جُمّدوا في مسار التاريخ وخلعت عنهم جلوهم كما تخلع الملابس ووُضِعوا لنا على مسرح التسلية والتعليم كممثلين عرات مجردين من أغطيتهم الحضارية الخادعة لكي نرى فيهم حقيقتنا مكشوفة، ونشبع فضولنا المكتوم عما سوف يؤول إليه في النهاية مصيرنا.

فخرجت من المعرض وقد تلاشى عني الذهول الذي انتابني في اللحظات الأولى من تلك الزيارة الصادمة وبدأ يتكون محله مزيج غريب من التساؤلات والإستفسارات والإستنتاجات التي لابد أنها كانت محاولة لاشعورية مني لاستيعاب تلك التجربة السيريالية.

فمشيت أجر رجلي راجعاً إلى محطة القطار ومحتمياً تحت المظلة من رذاذ المطر الذي كان يمتطي كل لفحة هواء ليرش وجهي ويوقظني من غفوة تخيالتي لتلك الأجساد الحمراء الساكنة، وأنا أتمتم لنفسي:

بعض تلك الجثث هي لناس قد وهبت أجسادها لحاجتها في البقاء حتى لو ذهبت الذات، وبعضهم حباً للإستعراض حتى بعد الموت، والبعض الآخر لأهداف علمية وتعليمية نبيلة، وهكذا، كل من هؤلاء المتطوعين كان يحمل هدفاً خاصاً به يعكس تجاربه من الحياة ويساعده على تقبل حتمية إنتهائه. وربما بعضهم قد سمع عن عذاب القبر فاختار التحنيط حتى يتجنبه، كان بإمكانهم أيضاً إختيار الحرق بدلاً الدفن فهذا سوف يجنبهم محنة القبر أيضاً.

 
غونثر يشارك بعض الشخصيات المعروضة جلستها
(إضغط على الصورة لتكبيرها)
أين يوجد معرض غونثر فون هاغن؟ هل غونثر فون هاغن دكتور؟ من منكم زار معرض غونثر فون هاغن؟ ماجنسية غونثر فون هاغن؟ من يريد زيارة غونثر فون هاغن؟ هل يحتوي معرض غونثر فون هاغن على جثث بشرية؟ هل الجثث في معرض غونثر فون هاغن حقيقية؟ كيف يحنط غونثر فون هاغن الجثث؟ ماهي طريقة تحنيط الجثث؟ ماهي أفضل طريقة لتحنيط الجثث؟ كيف تحنط الجثث؟ ماهي المواد المستعملة في تحنيط الجثث؟

*  موقع المعرض (الهومبيج)  هـنـا
*  للمزيد من الصور  هـنـا

هناك 18 تعليقًا:

MSMO يقول...

كنت قد سمعت عنه من قبل لكن صراحة الفكرة صادمةوالصور قد تثير اشمئزاز عدد كبير من الناس فما بالك عندما تراه أمامك
هذا المتحف قد يستفيد به عدد كبيرممن يتعاملوا مع الجسد البشري أما الآخرين فالفكرة بمفردها قد تثير الاشمئزاز

غير معرف يقول...

موضوع مثير للاهتمام

ساره النومس يقول...

اول مرة اسمع عنه بصراحة
والموضوع لفت انتباهي بشكل كبير
ودي ازور المكان واشوف لاني استمتع بمشاهدة مناظر مثل جذي بصراحة

وتعليقي ان الموضوع مو قوي حييل لدرجة ان الواحد يوصل للشرك بالعكس .. انا لمن قريت جملتك قلت الله يستر بس ماعتقد الموضوع راح يخلي الواحد يشرك ..

اشكرك واتمنى تحط صور بعد لان الموضوع جدا رائع

خدمات البحث العلمي يقول...

شيء مثير وغريب اول مره اسمع فيه

وبصراحه ودي ازوره

الجو مرعب شوي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي MSMO ،،

هناك جانب تعليمي وتوعوي للمعرض، حيث يتعلم الزائر أمور كثيرة تخص جسده وكيقية عملها والحفاظ عليها، إنما طريقة العرض مقززة في الحقيقة ولاتترك مجالاً للشك في أن الهدف الأول هو إستعراضي تجاري.

يقال أن حالة الإغماء من المناظر المعروضة تنتاب بعض الزوار بمعدل زائر كل يوم.

ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي بن باز ،،

هلا بيك، يسعدني اهتمامك بالموضوع.

لك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي طموحة ،،

هذا معرض متنقل لايوجد له مكان معين. واعتقد أن العرض الحالي في هولندا والقادم في فانكوفر في كندا. ولاأتوقع، للأسف، أن يُسمح له بزيارة اي من البلاد العربية لتعارضه مع المبادئ الدينية.

لم أفهم ماعلاقة الموضوع بالشرك!!

سوف أضع رابطين أسفل البوست لموقع المعرض والمزيد من الصور.

مع تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي مبدعة ،،

كما وضحت للأخت طموحة أعلاه، المعرض متنقل ويمكنك أن تطلعي على برنامجه من خلال الوصلة التي سوف أضعها أسفل البوست.

ولاأشك أن بعض الزوار سوف يجد الجو هنام فعلاً مرعب.

ولك تحياتي

Sami يقول...

معلومه يديده ...وفقت في نقل تجربتك لنا :)

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي سامي ،،

أرجو أن المعلومة تحمل بعض الفائدة ..

وهلا بمرورك
وتحياتي لك

Tazmania يقول...

تجربة جديده ومشوقه يعطيك العافيه على طرييقة السرد الحلوه

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي Tazmania ،،

أهلاً بك ويسعدني أن البوست قد نال إستحسانك ..

تحياتي لك

اقصوصه يقول...

تقرير ممتع

رمضان كريم

وكل عام وانتم بخير :)

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي اقصوصة ،،

سعيد باستمتاعك بالبوست، وكل عام وأنت بألف خير وعاقية.

مع تحياتي

Nikon 8 يقول...

مع إن الموضوع صادم بالنسبة لي
ولكنه عرفني بمعلومات قيمة
خوش بوست
موفق بإذن الله

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي Nikon 8 ،،

قد سرني أنك وجدت في الموضوع معلومات مفيدة ..

أتمنى التوفيق لك وللجميع
مع تحياتي

ساره النومس يقول...

ههه المعذرة قريت تكدر قريتها شرك شياب هذي حق هذي سامحني اعذر الحول الي صار فيني

basees@bloggspot.com يقول...

لاعليك ياعزيزتي طموحة، نتعرض كلنا لنوبات من ذلك "الحول".

تحياتي