الاثنين، 1 نوفمبر 2010

ليست مجرد فرقعة

::

يروي يوشي قصة أحداث ذلك اليوم عندما كان في الثالثة عشر من عمره:

تمتم أحد زملائي في فصل المدرسة وهو يشير من خلال النافذة إلى طائرة تحلق في السماء قائلاً: "أنها أي بي 29"، فنهضت من كرسيي وسألته: "أين هي؟" محدقاً في الإتجاه الذي يشير إليه.

كنت على وشك الوقوف عندما وقع الحدث، وكل ماأتذكره من تلك اللحظات هو أنني رأيت وميض باهت لم يستمر أكثر من ثانيتين أو ثلاث، فقدت بعدها وعيي. ولاأدري كم مضى من الوقت قبل أن أفيق وأرى هول الوضع حولي، فالأدخنة كانت تتصاعد من مكان ما فوق الحطام والغبار يتطاير في الأجواء وأنا مدفون تحت الأنقاض أشعر بألم شديد لم أتمكن معه من الحركة بوصة واحدة.

أتذكر أنني سمعت وأنا في تلك الحالة حوالي عشرة من زملائي في الفصل ينشدون نشيد المدرسة. وأتذكر أيضاً أنني كنت أسمع بعضهم ينحب وينادي أمه، فشاركتهم الغناء على أمل أن يسمعنا أحد ويأتي لمساعدتنا، ولكن حيث لم يأتنا أحد، بدأت أصوات التلاميذ بالإنقطاع الواحد تلو الاخر، وبقيت أغني وحدي وشعور الخوف يغمرني. ثم قمت بعدها بدفع الأنقاض عني ببطء، قطعة قطعة، وبكل ماأوتيت من قوة حتى نجحت في إزاحة الحطام من حول رأسي ورفعته لأرى أننا قد أصبنا بدمار مهول.

كانت السماء فوقنا قاتمة، ورأيت كأنما إعصار أو كرة هائلة من النيران تعصف بمدينتنا، ولكني لاحظت بالرغم من ذلك أن إصابتي كانت طفيفة، حول ذراعي وفمي فقط والذي كان ينزف بغزارة. فأردت أن أخرج، ولكني تخوفت من أن أُعامل كجبان وهارب إذا خرجت بمفردي، فزحفت فوق الأنقاض على أمل أن أجد زميل آخر لايزال على قيد الحياة ليخرج معي.

وجدت أحد زملاء فصلي لايزال حياً، فأسندته على ذراعي. كان رأسه مشجوجاً ولحمه يتدلي من شق رأسه ولم تتبقى له إلاّ عينا واحدة كان ينظر إليّ بها. كان يتمتم شيئاً لم أفهمه وأخذ بعدها يعض على أظافر أصابعه، فسحبت يده من فمه، فأدخلها في جيبه وأخرج منه دفتراً صغيراً. فسألته قائلاً: "هل تريدني أن آخذ هذا الدفتر وأعطيه لأمك؟" فأومأ لي برأسه وكاد أن يفقد وعيه وهو ينادي: "ماما ماما". كنت أظن أنه من الممكن أن أأخذ هذا الزميل معي، ولكن جسده من الأسفل كان عالقاً تحت الأنقاض، فطلب مني أن أتركه وأذهب. وفي تلك الأثناء بدأت النيران في الإنتشار إلى جناح آخر من المدرسة، أو ما تبقى منها، والأدخنة أخذت تملأ المكان، فتركته وخرجت أركض إلى ساحة الملعب، وأدرت برأسي للخلف لأرى زميلي "وادا" لايزال ينظر إلي من تحت الأنقاض، فانتابني شعور بالأسف نحوه، وكانت تلك آخر مرة أراه فيها.

وأتذكر أنني عندما كنت أركض فوق الحطام، كانت تخرج أيدي من بين الأنقاض وتمسك بساقي، وأصوات تنبعث من الحطام تطلب مني أن آخذها معي. تلك المشاهد لاتزال تراودني في أحلامي. كنت مجرد طفلاً صغيراً في ذلك الوقت، وكنت أشعر بالهلع من كثرة تلك الأيدي التي كانت تحاول القبض على ساقي، فقد كنت أعاني من الألم ولم تكن لدي حيلة سوى التخلص منها ... فكنت أرفسها، وأشعر الآن بعتاب الضمير كلما تذكرتها.

ذهبت بعد ذلك إلى جسر مايوكي على النهر القريب من المدرسة، ورأيت عدداً كبيراً من الناس قد سقطوا على ضفافه، وعدداً كبيراً آخر كانوا يتزاحمون على عتبات الجسر الضيقة ليصلوا إلى الماء، فتزاحمت معهم ورأيت عندما وصلت إلى الماء أن النهر كان ممتلأً بالجثث. فدفعت الجثث عني وغرفت من الماء الممتزج بالطين لأشرب، ووقفت في الماء أنظر إلى الأموات الطافية وهي تنجرف مع التيارات. لاأجد الكلمات المناسبة لوصف ذلك المنظر فقد كان مهولاً، شعرت معه بالرعب والهلع. فعدت لأتسلق حافة ضفة النهر ولكني شعرت بالشلل ولم أرى حتى ظلي، فشخصت ببصري إلى السماء ورأيت فيها غيمة تتضخم وتشبه في شكلها الفطر mushroom. كانت بيضاء براقة تشع حرارة شديدة، ينعكس عليها الضوء ويتحول إلى أطياف قوس قزح. فنظرت إلى تلك الغيمة التي أشعر الآن بأنها كانت جميلة وأقول لنفسي أنني لن أرى أمي ولن أرى أخي الصغير، وفقدت بعدها وعيي مرة أخرى.

أفقت الساعة السابعة مساءً، ووجدت نفسي ممداً على الأرض في مخازن مديرية النقل في أوجينا، وأحد الجنود المسنين يحدق في وجهي. فصفعني بخفة على وجهي وقال لي: "أنت صبي محظوظ". وعرفت منه أنه قد ذهب بشاحنته إلى ضفاف النهر ليجمع الأموات المتناثرة عليها. كانوا يحملون الجثث ويلقونها في الشاحنة كالأكياس، فحملوني معهم وألقوني فوق كومة الجثث ظناً منهم بأنني ميت، ولكن جسدي انزلق من على الكومة وسقط من فوقها، وعندما مسك أحدهم بيدي ليرجعني إلى الشاحنة شعر بدقات نبضي ووضعني مع الناجين وأحضرني إلى المديرية.

لقد كنت من المحظوظين.

كان هذا وصف على لسان يوشيتاكا كاواموتو، أحد الناجين من إنفجار قنبلة هيروشيما، لما جرى له في تلك الساعات بعد إسقاطها عليهم يوم الإثنين السادس من أغسطس عام 1945. كانت تلك أول قنبلة نووية أسقطت على البشر، أعقبها بثلاثة أيام إنفجار نووي آخر في ناغازاكي أدى إلى إستسلام القوات اليابانية وانتهاء الحرب العالمية الثانية.

بنهاية الحرب إنتهى إسقاط هذه القنابل المروعة على الإنسانية، ولكن إنفجاراتها استمرت لعشرات العقود بعدها كتجارب في سباق تسلح مخيف بين القوى العظمى لم يتوقف إلاّ قبل بضعة سنوات، ولكن بعدما زاد عدد الدول التي تمتلكها. ولاتزال بعض الدول الأخرى، النامية منها بالخصوص والغير مستقرة سياسياً أو إجتماعياً، تحاول إقتنائها بشتى الطرق.

هذا فيديو كليب رائع يلخص سباق التسلح النووي الذي جرى في الفترة مابين أول إنفجار تجريبي حدث في الساعة الخامسة والنصف من يوم الإثنين السادس عشر من أغسسطس عام 1945 في صحراء المكسيك بواسطة الولايات المتحدة، وإلى أواخر عام 1998، حين فجّرت فيه باكستان آخر قنبلة نووية.

(في الزاوية العليا على يمين الشاشة من الفيديو تظهر تواريخ الإنفجارات، وفي باقي الهامش أعلى الشاشة تظهر الدول التي أجرت التجارب وعدد إنفجاراتها. وفي الزاوية السفلى على يمين الشاشة يظهر المجموع الكلي للإنفجارات خلال تلك الفترات. وباقي الهامش أسفل الشاشة تظهر فيه باقي الدول النووية وعدد إنفجاراتها - الفيديو مصاحب بصوت):


متى فجرت أول قنبلة ذرية؟ أين فجرت أول قنبلة ذرية؟ ماهي أكبر قنبلة ذرية؟

هناك 8 تعليقات:

Um il sa3af wil leef يقول...

قصته مؤثره
:(

panadool يقول...

تدوينة اليوم رائعه يا بصيص
تسلم إيدك


طبعا هناك تجارب سرية غير معلنه لإسرائيل
وهي تملك 300 رأس نووي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزتي أم السعف والليف ،،

نعم، ونأمل أن لاتتكرر مثل تلك المآسي، أو أي مآسي أخرى، على البشرية.

تقبلي تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي باندول ،،

تجارب إسرائيل النووية تمت تحت الغطاء الأمريكي طبعاً. وهناك أيضاً كوريا الشمالية التي تملك عدداً غير معروف من تلك الأسلحة البشعة، بالإضافة إلى الدول الأخرى التي تحاول جاهدة في إنتاجها.

أسعدني استحسانك للتدوينة ياعزيزي، شكراً لك ..
وتقبل تحياتي

Godless يقول...

الفيديو الذي يظهر عدد التجارب لكل دولة اثارد دهشتي. ماذا يحدث للاشعاعات التي تتركها التجربة ؟ هل فقط يتركوها وينتقلو الى موقع اخر للتجربة ! ام ان هناك عمليات تنظيف واحتواء لها؟ اذا كانت القنابل على اليابان مازالو يستطيعون قياس الاشاعاعات التي تركتها وتأثيرها على الناس. فماذا عن ال 2000 انفجار لماذا لا نسمع عنهم او عن تاثيراتهم. امر غريب جدااا !

اشكرك على الموضوع الجميل.

Ameerov يقول...

موضوع مرعب يا بصيص !!
وفيديو مذهل
كل تلك الإنفجارات شهدتها أمنا الأرض
أمر محزن.. قصة يوشيناكا وقصة الأرض !!

لا أعلم هل كانت أمريكا تدرك جيداً توابع ذلك النووى وآثاره على البشر والحياة (قنبلة هيروشيما بعد التجربة ب3 أيام فقط) أم كانت الحرب مجرد فرصة ملائمة لتأكيد التجربة ؟!!
ولا أعلم هل المشكلة بآثارها ستختفى الآن بعد وقف التسلح النووى.. أم الأمر غير مضمون أيضاً
والمشكلة الأكثر فى هذه الدول الحمقاء التى لا ترى فى (النووى) غير مجرد بمبة أو فرقعة ورهبة ونصر !!
والدول الأخرى التى ترى أنها إرادة الرب للإعداد ليوم الدمار والخراب الإلهى !!

(لفت نظرى أن معلومات الفيديو مأخوذة من مراكز بحث فى السويد وستوكهولم للسلام .. لماذا لم تكون كل الدول مثل السويد؟!)

تحياتى الإنسانية

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي Godless ،،

تلك القنابل النووية تستخدم في العادة اليوارنيوم 235 والذي له "نصف عمر" (أي يفقد نصف كمية إشعاعاته) بعد 700 مليون سنة، ويحتاج إلى نفس الفترة ليفقد نصف النصف المتبقي وهكذا دواليك حتى ينتهي. فالإشعاعات تستمر ملايين السنين إذا لم تُنظف، ومواقع الإنفجارات التجريبية لايتم تنظيفها. ولكن ...

يبدو، وأقولها بتحفظ شديد، أن خطورة هذه التجارب على الحياة خارج مناطق التجارب ضئيلة لعدة أسباب منها أن كمية اليورانيوم المستخدمة في كل تجربة صغيرة جداً نسبياً. فقنبلة هيروشيما مثلاً كان وزن اليورانيوم فيها 65 كيلوغرام، أي لايتعدى حجمه كرة القدم ولايزال هناك ناجين يعيشون في المدينة إلى الآن بالرغم من تعرضهم المباشر لذلك الإنفجار.

والمعلومات الدقيقة الحقيقية عن أضرار تلك التجارب لاتزال مخفية عنا.

أسعدني إعجابك بالموضوع ياعزيزي
ولك تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي أميروف ،،

لم يكن هناك أحد يعرف مدى أضرار وتوابع إنفجاري هيروشيما وناغازاكي قبل إسقاط القنبلتين عليهما، فمما لاشك فيه أنهما كانتا حقلي تجارب بشرية هامة لخطط التسلح النووي المستقبلي. ولكن في نفس الوقت، اليابان رفضت الإستسلام مما كان يعني أن الحرب كانت لتستمر مع فقد الكثير من الأرواح، لاسيما أرواح جنود الحلفاء، مالم تُجبر اليابان على الإستسلام السريع، وهذا أعطى العذر لإسقاط القنابل.

فهل اختفت الآن مشكلة التسلح النووي وانفجاراته؟
هناك موروتوريوم دولي يمنع العودة إلى تلك التجارب، ولكن هذا لن يمنع الدول الشاذة، من السعي إلى إكتساب السلاح النووي وإجراء التجارب ...

والكل يعرف أين تقع أحد تلك الدول وأين سوف تُجرى التجارب، إذا استطاعت أن تحقق أحلامها.

ولك تحياتي