الاثنين، 1 مارس 2010

ذهبت إلى المستقبل يوم أمس .. وهاأنا اليوم موجود فيه

::


"وبينما أنا منهمك في القيادة ، بدأ تغيّر غريب يكتنف الأشياء من حولي ، فالأطياف الرمادية أصبحت تنبض بعتمة أشد. وبالرغم من أنني كنت أنتقل بسرعة مذهلة ، إلاّ أن ومضات تتابع الليل والنهار ، والتي كانت في العادة مؤشراً يدل على بطئ التسارع ، رجع ليتزايد في انعكاساته بشكل ملحوظ مما أثار استغرابي الشديد في البداية. ولكن سرعة تعاقب الليل والنهار بدأت بالإنخفاض ، كما انخفضت سرعة مرور الشمس عبر السماء إلى أن غدى الزمن وكأنه قد أمتد عبر القرون."

هذا إقتباس قصير من قصة "آلة الزمن" للروائي الإنجليزي أيتش جي ويلز H.G. Wells يصف المسافر فيه ملاحظاته لكيفية مرور الوقت خلال رحلته الزمنية متمثلاً في التعاقب السريع لليل والنهار وسرعة مرور الشمس عبر السماء عندما كان جالساً خلف عجلة القيادة في آلة الزمن وهي تتسارع به في رحلة يتراجع فيها الوقت ليحمله معه إلى الماضي.
::
هل نستطيع ياترى يوماً ما التنقل مابين الحاضر والماضي والمستقبل ؟ قد يعتقد أيتش جي ويلز ، عندما نشر قصته هذه عام 1895 ، أنه من الممكن تحقيق هذا الحلم ولكنه لم يكن عالم ومن المحتمل أنه لم يعرف بأن العلم ، حتى في ذاك الوقت ، كان بمستوى يمكننا من التوصل إلى إجابة.

أما اليوم ومع تراكم المعلومات وتقدم النظريات فالرأي السائد بين العلماء هو أنه من الممكن السفر إلى المستقبل ولكن ليس ، كما يبدو ، إلى الماضي. والسبب في ذلك جذري ويتعلق في خاصية هامة للوقت ، أو الزمن ، تسمى: الوقت السهمي Arrow Time والتي تبيّن أن الوقت يتتابع ( أو يسيل Flow ) في إتجاه واحد كما ينطلق السهم ولايمكن عكسه ، إذ لايمكن إرجاع السهم إلى القوس الذي أطلقه بإرجاع الوقت لأن الوقت لايرجع بل يجري في اتجاه واحد. وأفضل الأمثلة لتوضيح هذه الخاصية هو ملاحظة أنه من الإستحالة إرجاع البيضة بعد قليها إلى حالتها النيئة السابقة أو الصحن إلى حالته الأصلية بعد كسره أو المُسِنّ إلى شبابه.

ولمن يحلم بأن العلم بإكتشافته الباهرة قد يمنحنا يوماً ما بصيص من الأمل في العودة إلى الماضي لتصحيح ذلك الخطأ الفادح الذي اقترفناه أو لإغتنام تلك الفرصة التي هدرناها أو لتحقيق أمنية "ليت الشباب يعود يوماً" - لمن تخطى الأربعين ... طيب لاتزعلون ياشباب\شابات .. لمن تخطى الـ---ين .. عبوا الخانات بالسن اللي يعجبكم - فيؤسفني أن أقول بأن خاصية "السهم الوقتي" والتي لاتسمح بالعودة إلى الماضي ترتكز في الواقع على أساس صلب يمثل أحد أهم القوانين الفيزيائية الطبيعية وهو القانون الثاني للدينمايكية الحرارية Second Law of Thermodynamics والذي يصف حالة الإنتروبيا (الفوضى) Entropy  والتي تتزايد مع مرور الوقت في الكون وتسري على جميع مكوناته. ولتوضيح هذه الحالة: تخيلوا لو أن احدكم وضع رزمة من الأوراق بكامل الترتيب والنظام على طاولة في البيت وتركها بدون أن يلمسها أحد ، هل تعتقدون أنها سوف تظل على حالتها من الترتيب إلى الأبد ؟ قانون الأنتروبيا يقول لا ، لأنه لابد أن يحدث شيئ ما ليغير ترتيبها إلى الأسوء. فقد يدخل ريح من النافذة أو الباب ويبعثرها على الأرض أو تحدث هزة أرضية أو تنكسر الطاولة أو يقع عليها شيئ فيتغير ترتيبها إلى الأسوء. ولكن بالمقابل ليس من الممكن أن تبعثر أوراقك على الأرض ثم تتوقع منها أن تصطف بكل ترتيب بنفس هذه العوامل. هذه هي الأنتروبيا وهي متعلقة بالسهم الوقتي ، كما شرحته أعلاه ، وهي السبب في عدم إمكانية إرجاع الوقت إلى الماضي.

ولكن لماذا هناك أنتروبيا أصلاً ومن أين جائت ؟ الإجابة على هذا السؤال تتعلق بنشئة الكون ومن أين وكيف جاء مما يجرنا إلى عملية الخلق نفسها والإرتطام الحتمي المباشر بين ماتكشفه لنا النظريات العلمية وماينص عليه الدين.

فإذا عدنا إلى أصل الأنتروبيا فهي قد بدأت مع الكون بالإنفجار الكبير Big Bang وكانت في ترتيب وتنظيم كامل بدون أي نوع من الفوضى عند بدايتها الأولية مما يدفعنا إلى سؤال آخر وهو: ماذا كانت الحالة قبل الكون ، وهل هذا سؤال يمكن طرحه أصلاً ؟
::
لحسن الحظ هناك علماء يبحثون في هذه التساؤلات ويصيغون نظريات لإيجاد أجوبة لها ، ولعل من أشهر ماعُرض منها هو ماطرحه شون كاريل Sean Carroll من Cal Tech  والذي أثار أهتماماَ شديداً في الأوساط العلمية بدراساته. إذ أنه توصل ، وفقاً لنظريته والتي تساندها نظريات أخرى في أبحاث علم الفلك الحديث ، بأن الكون الذي نعرفه ونراه حولنا ليس الوحيد الموجود إنما يمثل جزء من أكوان أخرى عديدة ، كما أن الإنفجار الكبير لم يكن البداية [للوجود] إنما كانت هناك أكوان قبله.



ومحور هذه النظرية يدور حول وجود كون مركزي ساكن - أي بدون أي نشاط أو تفاعل - وهو غير الكون الذي نعيش فيه ، ومن هذا الكون تنبثق عدة أكوان أصغر - والكون الذي نحن فيه هو أحدها - وتنتقل في إتجاهات مختلفة فور إنبثاقها. ويمثل هذا الإنتقال إتجاه الوقت - أي تكوّن السهم الوقتي - لكل منها ولكن مع الإنتباه أن الكون المركزي ، حيث أنه ساكن ، ليس له إتجاه وبالتالي ليس له وقت سهمي - أي أن وقته ساكن لايجري (أو يسيل) - بالرغم من وجوده فيه كأحد مكونات أبعاده وإمكانية قياسه ، فعليه لايوجد في ذلك الكون ماضي أو حاضر مستقبل.

وسؤال هام آخر هو: إذا كان ذلك الكون المركزي ساكن ولايتفاعل ، فكيف تنبثق منه أكوان أخرى ؟ والجواب تمدنا به النظرية الكوانتية ، فهي تنص على أن المادة تنبثق من العدم من خلال ظاهرة تسمى بالتذبذب الكوانتي Quantum Fluctuation حيث تظهر من العدم جسيمات صغيرة تظل في الوجود لفترة قصيرة جداً وتتلاشى بعدها إلى العدم. وهذه نفس الآلية التي تتولد بواسطتها الأكوان الأخرى ومن ضمنها كوننا الذي نعيش فيه.

فعندما تتولد هذه الأكوان من الكون المركزي ، يتولد معها السهم الوقتي ومعه تبدأ الأنتروبيا في التدهور بعدما كانت في ترتيب كامل. ومع مرور الوقت تزداد درجة الأنتروبيا حتى تصل إلى المستوى الأقصى لها حيث يتلاشى عنده السهم الوقتي من الوجود وفي ذلك الحين ينبثق كون آخر مما تبقى من الكون السابق وتتكرر هذه العملية إلى الأبد.

تشير نظرية شون كاريل على أن هذه المراحل مستمرة ، وقد ولدت أكوان لامتناهية العدد في السابق ومثلها إلى مالانهاية في المستقبل والإستنتاج الطبيعي لهذه النظرية ومثلها نظريات أخرى حديثة أنها تزيل الحاجة إلى وجود إله لإشارتها إلى أزلية الوجود.

أعذروني إن كانت هذه المفاهيم صعبة الإستيعاب أو التصديق ولكن للأسف النظريات العلمية الحديثة ، وخصوصاً تلك التي ترتكز على النظرية الكوانتية Quantum Mechanics كما هو حال نظرية شون كاريل هذه ، تتعارض مع الكثير من مفاهيمنا البشرية اليومية ومن الصعوبة البالغة شرحها بدون اللجوء إلى المعادلات الرياضية ، ونحن هنا نحاول الوصول إلى فهم بسيط لما توصل إليه العلم الحديث - بدون معادلات - حتى يتسنى لنا أن نقارن بين مايكشفه لنا العلم ، مع عمقه وصعوبة فهمه ، وماينص عليه الدين ونحكم عقولنا على ضوء هذه المعلومات فيما نختار ، فالجهل وقود الأيمان ونحن نريد أن نبني قناعاتنا على معرفة لا على جهل. والكثير من النظريات العلمية الحديثة تأخذ نفس المنعطف الذي يوصل إلى نتيجة أن الكون لايحتاج إلى خالق ليأتي إلى الوجود وما نظرية شون كاريل إلاّ واحدة منها.


مبني على مقابلة مع شون كاريل مع التصرف والإضافة

هناك 6 تعليقات:

غير معرف يقول...

مقال جميل
ولكن هل لك ان تذكر المصادر التي استخدمتها
وهل نظرية Sean Carroll
معتمدة على
string theory (m-theory)

وشكرا لك

basees@bloggspot.com يقول...

أهلاً بك Moral

المقال مبني على مقابلة مع Sean Carroll تجدها على هذا الرابط:

http://www.wired.com/wiredscience/2010/02/what-is-time/

الحقيقة أنني لم أسمع بهذه النظرية بالذات قبل قرائتي للمقابلة فلا أعرف تفاصيلها أو جذورها ، فشون كاريل لم يتعمق في شرحه. ولكني أرتأيت الكتابة عنها بناءً على فهمي لفكرتها لأنها تضيف أفكاراً جديدة مثيرة ومتوازية مع النظريات الأخرى الموجودة - Brane theory كمثال آخر وهي نابعة كما تعرف عن M theory - وهذه نظريات تجتمع على احتمال وجود عدة أكوان وأزلية هذه الأكوان مما يتعارض مع المفاهيم الموروثة.

أود أيضاً أن أضيف توضيح بأن نظرية Sean Carroll صيغت لتعالج مفهوم الوقت Time ، فهي نظرية عن الوقت وليس عن نشأة الكون بحد ذاته. ولكن أي محاولة لفهم طبيعة الوقت تتطلب فهم لنشأة الكون ، فالنظرية تتطرق إلى هذا أيضاً كضرورة ، وهو الجانب من النظرية الذي يقوم عليه المقال.

مع تحياتي

basees@bloggspot.com يقول...

لقد أزلت سهواً أحد التعليقات قبل أن يتستى لي قرائته أو أعرف من الذي أرسله. أعتذر عن هذه الزلة وأرجوا إعادة كتابته حتى أتمكن من الرد عليه إذا تطلب مني ذلك.

مع الشكر

غير معرف يقول...

الصديق بصيص
اشكرك على التوضيح واللينك واعتذر عن تاخري في الر فقد كنت مشغولا بكتابة مقال

"ما مدى ابداع الله ورحمته في خلقه؟"

لدي ملاحظة
"الإجابة على هذا السؤال تتعلق بنشئة الكون ومن أين وكيف جاء مما يجرنا إلى عملية الخلق نفسها والإرتطام الحتمي المباشر بين ماتكشفه لنا النظريات العلمية وماينص عليه الدين"

اعتقد ان رجال الدين بامكانهم دائما التدليس بالتوفيق بين العلم والدين

فمثلا بامكانهم ان يقولوا حول نظرية الزمن التي ذكرتها ان الله مالك الزمن "مالك يوم الدين" يعيش في الكون المركزي وان الاكوان اي "السموت السبعة" تنبثق من كون الخالق بكلمة كن او ما يسميه العلم
Quantum Fluctuation

اذكر كيف كيف كان الكل يسخر وينفي البج بانج ثم اصبحت بفضل رشاقة الاعجازيين العالية حقيقة قرانية

تحياتي لك

basees@bloggspot.com يقول...

عزيزي Moral ،،

أوافقك الرأي بأن المؤمن سوف يلتف حول أي معلومة علمية تتضارب مع عقيدته بابتداع الحجج مهما بلغت ركاكتها ، ومازودتنا به من أمثلة هي نموذج بارز لذلك. ولكن هناك أمل بأن تقدم عجلة العلم وتدفق المعلومات الناتجة عنه والتي تتعارض مع الدوغمائية العقائدية سوف يحصر الديانات مع مرور الوقت في زاوية ضيقة يصعب الهروب منها بالتبريرات. وبالرغم من أن الدين كما تفضلت سوف يتطور ليتكيف مع الإستكشافات العلمية ويحافظ على هويته المميزة ، إلاّ أننا نأمل مرة أخرى أن يكون قد تطور ذاك الأوان إلى درجة يكون قد فقد معها عناصره الهدامة والخطرة وتقلص ليصبح مجرد وسيلة تسلية لمعتنقيه لقضاء الويك أند.

وقد قرأت وأعجبني مقالك الذي أشرت أليه لما يحتويه من معلومات قيمة وأسلوبك المنطقي في صياغته.

وتقبل تحياتي

غير معرف يقول...

امل ان يتطور الدين فعلا, فعلى الاقل عندما تتطور النظريات,
يصبح من الصعب ان تقنع المتعلمين بالاعجاز فيصبح الهدف اظهار توافق فقط
وربما نتخلص من كل اجندات التحريض باسم الدين

يسعدني ان مقالي الاخير اعجبك

تحياتي